هوية وتاريخ مدينة گوزانا (تل حلف) – دراسة تاريخية – الحلقة الخامسة-  بيار روباري

 

Nasname û dîroka bajarê Gozana

ثامنآ، ثقافة گوزانا ودورها التاريخي:

Çanda Gozana û delameta wê di dîroka kurdan de

قبل الحديث عن حضارة أو ثقافة گوزانا، أرى إن أفضل مدخل لذلك، هو طرح بعض الأسئلة حول هذه الثقافة، ومن ثم السعي الإجابة عليها لفهمها بشكل أفضل، ومن هذه الأسئلة:

أولآ، ما هي أبرز سمات حضارة أو ثقافة گوزانا؟ ثانيآ، ما هو المدى الجغرافي لإنتشار هذه الثقافة؟ ثالثآ، مدى تأثير هذه الثقافة على الكرد والشرق الأوسط ومعهم العالم؟ رابعآ، ما هو المدى الزمني الذي عاشته هذه الثقافة؟ خامسآ، كيف إنتهت هذه الحضارة وتلاشت؟؟

هذه الثقافة أو الحضارة التي إطلق عليها تسمية “ثقافة گوزانا” إستمدت إسمها من المدينة نفسها. ومدينة

گوزانا هي مهد إنطلاق الحضارة الخورية قبل (8000) ثمانية ألاف عام قبل الميلاد وأكثر، هي في نفس الوقت هي مهد الحضارة البشرية، وهي إم حضارة سومر وكاش وإيلام وسبقتهم على الأقل بنحو (1000) الف عام. وأخطأ الكثيرين من العلماء والباحثيين الأولئل، لا بل كلهم عندما إعتقدوا بأن حضارة سومر (أوروك) هي مهد الحضارة الإنسانية، ومنها إنتقلت نحو الشمال ومن هناك نحو العالم.

ولكن إكتشافات:” گوزانا، هموكاران، ميرا، أوركيش، سريه كانية، سيكاني” أكدت وبشكل قاطع أن العكس هو الصحيح. أي أن الحضارة إنتقلت من الجزيره الفراتية العليا إلى الجنوب عند ملتقى نهري “تيگريس والفرات” وإلتقائهما بخليج إيلامي الكردي.

أهم سمات ثقافة – حضارة گوزانا هي:

1- الزراعة وتطويرها بشكل دائم، وبفضل الزراعة وتوفير الغذاء الكافي تمكن الخوريين من الإستقرار

في الأرض وبناء القرى والمدن، وبالتالي تحول البشرية من حياة البداوة إلى الحياة المدنية، وظهور مفهوم المجتمع الإنساني.

2- تدجين الحيوانات مثل الغنم والماعز والبقر والحصان، والإستفادة من حليب وصوف وجلود بعضها، والإستفادة من الحصان في عمليات النقل والفلاحة والسفر.

3- الصناعة كانت الميزة الثالثة لحضارة گوزانا، وجاءت كنتيجة لحاجة الإنسان للألات والمعدات لإستخدامها في الزراعة وبناء المنازل بعد إستقرار الإنسان في الأرض، وزراعة الأرض بالمحاصيل المختلفة. ومع الوقت تمكن الخوريين من إكتشاف معدن النحاس وإستخراجه وتعدينه وصنع الأدوات منه، وبالتالي الإنتقال من العصر الحجري إلى العصر النحاسي.

4- فن التجارة، أيضآ ظهرت التجارة في عصر الحضارة الگوزانية، وشهدت التجارة في ظل هذ الثقافة توسعآ كبيرآ، إمتد من أعالي الفرات وحتى خليج إيلام ومنه حتى أن وصلت للسند والهند، وغربآ وصلت إلى شواطئ البحر المتوسط، وهذه كانت قفذة نوعية وضخمة في هذا الوقت من التاريخ.

5- ظهورالطبقات الإجتماعية ومفهوم الأمن والنظام والحماية والدفاع عن الذات.

6- على الصعيد الروحي أو المعتقدي، برز لأول مرة في التاريخ الإنساني فكرة الإيمان وعبادة الإنسان لقوى الطبيعة مثل: الشمس، القمر، النجوم، البرق، الرعد، الرياح، … إلخ. وظهر في ذات الوقت تماثيل آلهة الأمومة، ومفهوم دفن الموتى وفي البداية كان الميت يدفن على جنبه الأيمن في وضع القرفصة  ووجه نحو الشرق حيث شروق الشمس، إضافة لذلك كان يدفن معه بعض أشيائه الشخصية.

أما المدى الجغرافي الذي شملته الثقافة أو الحضارة الگوزانية، كان واسع جدآ وشملت الجزء الأكبر من مساحة بلاد الخوريين أسلاف الشعب الكردي، وضمت الكيانات الحالية التالية: (العراق، الكويت، ايران، سوريا، لبنان، سوريا، فلسطين، تركيا)، بكلام أخر هضبة الأنضول وشرق المتوسط حتى خليج إيلام والهضبة الإيرانية.

وهي أكثر المناطق في الشرق الأوسط التي تتوفر فيها المياه بفضل هطول الأمطار بمعدل سنوي مقبول ووجود عدد كبير من الأنهار الينابيع والجداول والبحيرات نتيجة هطول ثلوج فيها وخاصة في المناطق الجبلية العالية. وهي جغرافيا تجمع بين الجبال والسهول، وتمتاز بخصوبة التربة الصالحة للزراعة، وإنتظام الفصول الأربعة. كل هذه الأسباب أهلت لتكون كردستان مهد الحضارة البشرية، ومن هنا نجد هذه الكمية الكبيرة من المدن الأثرية والتاريخية فيها، وظهور أولى الحضارات على أرضها، وهذا السمة كانت نقمة عليها أيضآ وعلى شعبها، حيث جعلها مطمعآ لكافة القوى الإستعمارية الشريرة من حولها. ومن هنا جاء تعرض الشعب الكردي لكل تلك المأسي والمجازر والظلم المستمر ليومنا هذا. والغزوات كانت تأتيه من كل الجهات، جهة الجنوب، الشرق، الشمال والغرب ومن أقوام عديدة منها (الساميين، الأوروبيين، القوقازيين، شعوب البحر).

لا شك إن تأثير ثقافة “گوزانا” كان كبيرآ على كامل منطقة الشرق الأوسط ومعها العالم، وحتى أثرت في الثقافة المصرية والهندية المجاورتين لها، إن كان على الصعيد الحضاري والروحي على حدٍ سواء. وبفضل هذه الحضارة الكردية العريقة، تعرف المصريين لأول مرة على الأحصنة والعربات الحربية ذو العجلتين، ومعدن النحاس والحديد والقصدير، وللمعلومات أن مصطلح (قصدير)، مصطلح كردي رصين ويعود تاريخه إلى أكثر (7000) سبعة ألاف عام قبل الميلاد، وهي مأخوذة عن الكلمة السومرية – الكردية (كستير).

وكل الثقافة الأوروبية مستمدة من ثقافة “گوزانا” الخورية – الكردية، بما فيها لغاتهم والحروف اللاتينية التي أخذوها عن الأبجدية الأوگاريتية – الكردية التي ضمت (30) حرفآ، هذا إضافة إلى أسماء الإله

الأربعة في العالم (گاد، ديو، بوخ، الله) كلها مأخوذة من اللغة الكردية. وكل المعابد اليهودية والمسيحية

والإسلامية في البدايات بنيت على المعابد اليزدانية بما فيهم المسجد الأموي بدمشق وحلب لمن لا يعرف وكنائس جبل “ليلون” بمنطقة أفرين، وفي مقدمتهم كنيسة مدينة “دلبين، دارازه وأگروا”.

من هنا يمكن لنا القول بأن ثقافة “گوزانا” الخورية – الكردية، تحولت إلى ثقافة عالمية عبر التجارة والتواصل الإنساني.

لقد ظهرت حضارة “گوزانا” في مثلث الخابور في الجزيره الفراتية – الخورية حوالي الأف (8000) قبل الميلاد وإستمرت إلى الألف (7000) قبل الميلاد. أي سبقت حضارة سومر بألف عام. لأن حضارة مدينة “أوروك” تعود لسبعة عام قبل الميلاد، والمؤكد أن حضارة “گوزانا” هي الأم في كل شيئ بما فيها اللغة والمعتقدات. وشخصيآ أختلف مع الباحثين الذين قالوا أن حضارة “گوزانا” بدأت حوالي (6100) الألف السادس قبل الميلاد، وإستمرت حتى (5100) الألف الخامس قبل الميلا. نعم الحضارة الگوزانية وصلت إلى أوجهها في الفترة ما بين (6100-5000) قبل الميلاد. وأثار الحضارة الگوزانية العريقة ليست فقط موجودة في الأثار المادية التي إكتشفت في مختلف المدن الخورية – السومرية – الكاشية –

الإيلامية – الميتانية – الهيتية، وإنما أيضآ في المعتقدات الدينية، اللغة، وبعض المفاهيم والقيم مثل الحفاظ على البيئة، ترشيد المياه، …. إلخ.

إستمرت حضارة “گوزانا” زاهرة لحوالي (1100) إحدى عشر قرنآ حتى بدأت تذوب شيئاً فشيئاً تحت تأثير زحف الشعوب الهندو – أوروبية ونقصد بذلك الميتانيين الذي إختلطوا بالخوريين وإندمجوا معهم وشكلوا دولة قوية معآ (دولة الخوريين – الميتانيين) في أواسط في (1600) الألف الثاني قبل الميلاد، التي إمتد نفوذها وسلطانها إلى الممالك المجاورة. سميت الدولة الجديدة “المملكة الميتانية” وعاصمتها “واشوكاني”. وهكذا تراجع دور مدينة “گوزانا” وفقدت أهميتها كمركز إشعاع حضاري دام لألف عام.  حتى عاودت النهوض من جديد في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد حيث شكلت دولة في الجزيره إمتد نفوذها وسلطانها إلى الدول المجاورة مثل مصر وجنوب بلاد الرافدين وكل منطقة شرق البحر المتوسط وشرق كردستان.

أخذ وهج الحضارة الگوزانية يخف بالتدريج بعد أن دامت طويلآ نحو أكثر من (1000) الف عام قبل الميلاد، ولكنها لم تنتفي كليآ ولليوم نجد بقاياها هنا وهناك، وبعدها تصدر المشهد السياسي والحضاري مدن أخرى غير گوزانا مثل مدينة: هموكاران، أوركيش، ميرا، وتلاهما في تصدر المشهد مدينة “أوروك” السومرية. وبعدها بفترة زمنية سطع نجمع مدينة “واشوكاني” عاصمة الدولة الميتانية. هكذا إلى أن إحتلها الأموريين والأشوريين مدينة “گوزانا” وأهملوها، ومن بعدهم إحتلها الرومان وهكذا إنتقلت من إحتلال إلى أخر وليومنا هذا مع الأسف. وإستمرت مسيرة الإنحدار لهذه المدينة التي بدأت حوالي (4000) الألف الرابع قبل الميلاد.

لا شك بعد غروب شمس مدينة “گوزانا” بفترة طويلة أي حوالي منتصف (3000) الألف الثالث قبل الميلاد بدأت مدن أخرى غير المدن الخورية تلعب دورآ رياديآ وخاصة في جنوب بلاد الخوريين أي في بابل وأشاور، وأخذت تنافس المدن الخورية في الشمال بعدما إحتل الأكديين والبابليين المدن السومرية ودمروها عن بكرة أبيها بشكل همجي وأخضعوها جميعآ لسيادتهم. وبعد أن قويت شوكة هؤلاء الهمج بدأوا بهجماتهم المتكررة على المدن الخورية الشمالية في منطقة الجزيره، شاد-با، ألالاخ، أفرين، وحتى مدينة شمأل في الشمال الغربي من كردستان وهلچ (حلب).

وذكر المؤرخ والعالم جيمس ميلارت:” بأن حضارة گوزانا إنتشرت على شكل قوس من نهر الفرات إلى أعالي الزاب الكبير، ومن المحتمل أن تكون جبال طوروس حدودها الشمالية، مع جيوب منتشرة في الهضبة الأناضولية إلى الشمال من هذه الجبال، وبدأت حضارة گوزانا بالتلاشي بدءً من العام (4300) قبل الميلاد وإنتهت في العام (4400)” قبل الميلاد أي خلال فترة (100) مئة عام”.

ومن جهته قال الدكتور محمد بيومي مهران بشأن حضارة گوزانا: “إنها شغلت الفترة التي تمتد من الأف السادس (6000) قبل الميلاد وحتى أواخر (5000) الألف الخامسة قبل الميلاد، وإنتشر إنتاجها وثقافتها، من الزاب الأعلى وشملت سفوح جبال زاگروس شرقاً، إلى ما وراء نهر الفرات غرباً، وإلى الحدود التركية الحالية وسفوح جبال طوروس شمالآ. ومن ناحية الجنوب والجنوب الشرقي تجاوزت مدينة سمراء في جنوب كردستان، بدليل إكتشاف فخار في الطبقتين العلويتين في (تل الصوان) وأعلى تلة (چگه مامي) بمنطقة مندلي”.

وبحسب المعلومات التي نملكها حول حضارة “گوزانا” حتى اليوم، تؤكد بشكل قاطع بأن جميع المناطق التي إنتشرت فيها هذه الحضارة تقع ضمن أراضي كردستان التاريخية وحاليآ. وليس هذا فحسب وإنما أسلاف الكرد سكنوا كل هذه المناطق وإستوطنوا فيها كأول شعب وأقاموا فيها حضاراتهم المختلفة. ولليوم الشعب الكردي يسكن هذه المناطق رغم وجود بعض المستوطنين العرب والأتراك فيها، نتيجة الغزو والإحتلال الإستيطاني.

هنا أود أن أسجل إختلافي مع كلا السيدين: “ميلارت وبيومي”.

السيد ميلارت ذكر بأن حضارة “گوزانا” إنتهت وهذا غير صحيح. لماذا؟ الذي تلاشى هو دور المدينة كمركز إشعاعي ولكن حضارتها بقيت مع أبناء الشعب الخوري من سكان المدينة نفسها والمدن الخورية الأخرى، وكل الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة السومرية، الأكدية، البابلية، الأشورية هي تكملة أو تتمة للحضارة الگوزانية وهي الأولى في التاريخ الإنساني. لا شك إن الأقوام الأخرى أضافوا لهذه الحضارة وطورها، وإلا لما تطورت البشرية ووصلت إلى ما هي عليه اليوم.

السيد بيومي: قال أن حضارة “گوزانا” دامت من (6000) الألف السادس وحتى (5000) الألف الخامس قبل الميلاد. وبرأي هذا الكلام غير دقيق مع علمي المسبق بتبنى العديد من الباحثين هذا الرأي. لماذا غير دقيق؟؟

أولآ، كوني من الباحثين القلائل جدآ على المستوى الكردي، العربي والغربي الذي كتب دراسات تاريخية عن معظم مدن غرب كردستان الأثرية منها والتاريخية، والقسم الأكبر من هذه الدراسات نشرت والقسم الباقي في طريقه للنشر ومن ضمنها هذه الدراسة. ولدي إطلاع واسع على حضارة سومر – الكردية

وبقيت حضارات التي مرت على وطن الخوريين أسلاف الشعب الكردي، أعلم جيدآ أن الزراعة بدأها الخوريين حوال (10.000) قبل الميلاد، والزراعة تحتاج إلى إستقرار وقرى ومدن أي مجتماعات.

إضافة هناك مدن خورية أقدم من هذا التاريخ وهي متأثرة بثقافة وحضارة مدينة “گوزانا”، فكيف يصح ذلك؟؟ وهذه المدن تقع خارج مثلث الخابور، ومثلث الخابور يضم أهم خمس مدن خورية هي: “گوزانا، سريه كانيه، سيكاني، واشوكاني، أوركيش”

ثانيآ، بعد إكتشاف مدينة “هموكاران” الأثرية الواقع على الحدود المصطنعة بين غرب وجنوب كردستان وتحديدآ شمال جبل “شنگال”، أكد جميع العلماء والباحثين الذين نقبوا ودرسوا أثار المدينة وتاريخها، بأن حضارة الجزيره الفراتية أي حضارة “گوزانا” هي أم الحضارة السومرية وليس العكس. كما كان يعتقد علماء الأثار سابقآ. وإذا أخذ بالعلم بأن تاريخ حضارة “سومر” والمقصود بها مدينة أوروك يعود إلى (7000) الألف السابع قبل الميلاد، ووفق هذا التاريخ وضع كتاب التوارة اليهودي، والذي محوره سورة التكوين. فكيف يستقيم هذا مع ذاك؟؟؟؟

ثالثآ، إن الوجود الخوري – الكردي في هذه المدينة ومثلث الخابور بأسره يفوق العشرة (10.000) ألاف عام قبل الميلاد.

رابعآ، أوافق بأن حضارة “گوزانا” وصلت إلى قمة وهجها بين (6000) الألف السادس و(5000) الألف الخامس قبل الميلاد.

+++++++++

جيمس ميلارت:

عالم آثار وإستاذ جامعى وباحث إنثروبولوجيا ومؤرخ عصور ما قبل التاريخ من المملكة المتحدة، وهو مكتشف مستوطنة العصر الحجري الحديث في “كاتالهويوك” في شمال غرب كردستان (تركيا). وعاش بين الأعوام (1925-2012) ميلادية. ومن مؤلفاته “أقدم الحضارات في الشرق الأدنى – دار دمشق لعام 1990.

+++++++++++

محمد بيومي مهران:

كان أستاذآ لتاريخ مصر والشرق الأدنى القديم بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية وعاش بين أعوام (1928-2008). وله العديد من المؤلفات.

تاسعآ، الوجود الكردي في مدينة گوزانا:

Hebûna kurdan li bajarê Gozana

إن تاريخ الوجود الخوري – الكردي في منطقة الجزيره الفراتية بقسميها العلوي والسفلي وسلسلة جبال

زاگروس وطوروس المتمدة من الهضبة الإيرانية وحتى مدينة كهرمان الكردية في شمال وأقصى غرب كردستان، يعود إلى مئات الألاف من السنين، وخير دليل على ذلك كهفي: كهف “دو- دريا”، وكهف “شاندر”.

1- كهف “دو- دريا”:

يقع هذا الكهف في منطقة “چيايه كرمينج” على السفح الغربي لجبل “ليلون” والتي عثر فيها البعثة اليانية في العام (1993) على هيكل عظمي لطفل “نياندرتالي” عمره (2) عامان ويعود تاريخه إلى ما يقارب  (100.000) مئة الف عام. ووجد العلماء اليابانيين هيكل الطفل المتوفى موضوعاً على ظهره، ويداه ممدودتان وقدماه مثبتتان، وتحت رأسه بلاطة حجرية، وعلى صدره وفوق قلبه أداة من حجر الصوان. كان لهذا الاكتشاف أهمية علمية وتاريخية كبيرة، كونه الأقدم من نوعه في كل أنحاء كردستان ومنطقة غرب أسيا برمتها والأول في العالم. إضافة إلى كونه يشير إلى عملية دفن شعائرية بسبب وضعية الدفن النظامية ضمن حفرة مستقيمة.

وللكهف بابان أحدهما شمالي وهو الأكبر ويشرف على الوادي وعرضه (8) ثمانية أمتار، وارتفاعه (5) خمسة أمتار. والباب الثاني جنوبي وهو الأصغر ومفتوح باتجاه السماء ويبدو على شكل مدخنة وكان يستخدم للإنارة. ويبلغ عمق الكهف حوالي (60) ستين متراً، وأقصى عرض له أربعين متراً، ومساحة الكهف التقريبية فهي: (60 × 40 = 240) متر مربع، أي أنه أعمق وأكبر كهف من العصر الحجري المبكر.

2- كهف شاندر:

يقع على سفح جبل “برادوست” (145 كلم شمال شرق مدينة أربيل) ويعتبر أقدم وأكبر كهف مكتشف حتى الآن في جنوب كردستان (كامل العراق)، ويقع على إرتفاع نحو (2200) متر فوق مستوى سطح البحر ويطل على واد عميق كثيف الأشجار.

عثر العلماء في الكهف على بقايا (10) عشر من النياندرتال يرجع تاريخهم إلى ( 65-35) ألف عام. يحتوي الكهف أيضآ على مقبرتين تعودان إلى العصر الحجري الحديث، ويرجع تاريخ إحداها إلى (10.600) سنة ويحتوي على (35) فردآ.

الكهف على شكل مثلث عرضه يصل إلى (53م) وطولة (40م) وإرتفاعه حوالي (8م)، ويقدر سعة الكهف وإرتفاعه عند البداية بحوالي 25م، ويتسع عرضه فى الداخل فيصل إلى (175) قدمآ، ويرتفع سقفه فى الوسط بنحو (45) قدمآ من الارضية الحالية للكهف، بعد أن توالت عليها طبقات المخلفات والاثار الطبيعية والبشرية خلال السنين.

اكتشف هذا الموقع الاثري المهم والمعروف عالميا من قبل عالم الآثار الامريكى “رالف سوليكى” وذلك في العام 1951م، يوم كان عضواً في بعثة جامعة مشيغن الاثرية والتي جاءت إلى جنوب كردستان قادمة من الولايات المتحدة. وإكتشف الباحثون خلال التنقيبات بان هناك طبقات متراكمة من بقايا لقى وآثار في أرضية الكهف،و تشير إلى أن اجناسا بشرية عديدة سكنته على مر أجيال متتالية وعصور متعاقبة، ويعتبر واحد من بين أقدم المستوطنات البشرية، ويعود تاريخه الى العصر الحجري القديم والمعروف باسم (الدور المستيري).

المسافة بين الكهفين يبلغ حوالي (950 – 1000) كيلومتر، أي مسير (12) ساعة متواصلة على الأقل بالسيارة. وفي كل هذه الجغرافيا الطويلة سكنها الشعب الخوري قبل الميلاد بعشرات ألالاف السنين ولا يزال الكرد يسكنونها لليوم ودون إنقطاع ديمغرافي، ولم يكن هناك شعب أخر في هذه المنطقة حتى الألف الثالث قبل الميلاد، عندما بدأت أولى الغزوات السامية الإستيطانية السرطانية وبدأها الكنعانيين لجنوب وطن الخوريين أسلاف الشعب الكردي قادمين من اليمن. وبجهده الخاص تمكن الشعب الخوري المجد والمبدع من بناء حضارة جد متطورة في تلك الحقبة التاريخية من الزمن، وهي أول حضارة عرفتها البشرية في تاريخها، وكل ما تلا ذلك بني على قواعد تلك الحضارة الرائعة، وإنطلقت حوالي (8000) الألف الثامن قبل الميلاد من مدينة “گوزانا” العريقة.

من هنا يتبين لنا مدى تجذر الشعب الكردي في هذه الجغرافيا التي تسمى كردستان والتي تشمل الكيانات اللقيطة التالية: (تركيا، سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، الكويت، ايران)، والأكاذيب التي يسوقها الكتاب العرب المستعربة والمستتركين لا تنطلي على أحد، مثل القول: “أن الكرد في غرب كردستان مهاجرين من تركيا!!!”.

والأسباب التي شد الخوريين أسلاف الشعب الكردي إلى الإستيطان في مثلث الخابور والجزيره الفراتية وبناء أولى المدن وزراعة الأرض هي:

أولآ، وفرة المياه (الأنهار، الروافد، الينابيع، البحيرات، هطول الأمطار بمعدل جيد).

ثانيآ، خصوبة الأراضي الصالحة للزراعة.

ثالثآ، توفر الغطاء النباتي في المنطقة لرعي الماشية وبقيت الحيوانات.

رابعآ، المناخ المعتدل الذي كان يتمتع به المنطقة في حينها ولربما حتى الأن.

الإنتشار الخوري مع الوقت شمل كل المنطقة التي تضم البلدان التالية: (العراق، الكويت، سوريا، لبنان، تركيا وايران، الكويت). ومنطقة الجزيره مع جبال زاگروس وطوروس، هو مهد الشعب الخوري سلف الشعب الكردي. ومدينة “گوزانا”، كانت هي نقطة الإنطلاق وظهور الإمة الخورية للوجود وتبلورها والذي جمعهم هو اللغة المشتركة ونفس المعتقدات الدينية، والأرض ومع الزمن أضيف إليها ثقافة مدينة  گوزانا”، التي تمكنت من طبع كل المنطقة بثقافتها وهكذا باتت ثقافة خورية، ولاحقآ ثقافة إنسانية شملت كل العالم مع الوقت.

وإذا نظرنا إلى المنطقة سنشهد عددآ كبيرآ من المدن الأثرية الخورية تشمل كل هذه المنطقة، وخير دليل على ذلك وجود عاصمة الدولة الخورية نفسها فيها، أي مدينة “أوركيش” والتي يسميها البعض (گريه موزان)، وعاصمة الدولة الميتانية هي الأخرى موجودة في ذات المنطقة ولا تبعد عن گوزانا سوى عدة كيلومترات قليلة، والتي تسمى “واشوكاني”. إضافة لهذه الحواضر الخورية – الميتانية هناك مدينة “هموكاران”، الواقعة إلى الشمال من جبل “شنگال” داخل حدود غرب كردستان حاليآ، ومدينة ميرا،

گر – براك، سريه كانية، مدينة سيكاني وغيرها من المدن.

ومن خلال دراستي لتاريخ أكثرية المدن الأثرية والتاريخية في عموم منطقة الجزيره الفراتية وكتابتي دراسات تاريخية عنها: تأكد لي بشكل قاطع أنه جميع تلك المدن مدن خولاية – سوبارتية – ميتانية – هيتية مثل مدينة: ميرا، باخاز، هموكاران، گر براك، گوزانا، رقه، درزور، هسكه، أوركيش، سيكاني،

واشكاني، سريه كانية وعشرات المدن الأخرى، التي يعود تاريخها إلى ألاف السنين قبل الميلاد. ونفس هذا الشيئ ينطبق على مدن ساحل البحر الأبيض وخليج إيلام وشمال غرب كردستان (الأناضول).

وكل وجود غير الوجود الكردي في هذه المنطقة هو إحتلال بغيض وسرطاني، سواءً أكانوا كنعانيين أو أموريين، أكديين، بابليين، أشوريين، عرب مسلمين، رومان، بيزنطيين، تتار، مغول، فرس، عثمانيين، جركس وتركمان وأرمن.

ورغم كل ما تعرضت له مدينة گوزانا من حروب ودمار وحرق، بقية هذه المدينة وريفها لليوم كردي، وهي جزء من غرب كردستان. أما المستوطنين العرب فأغلبيتهم من البدو الرحل ووفدوا للمدينة، خلال القرنين الأخيرين، بحثآ عن عمل ومستقبل أفضل لهم وأبنائهم، وجزء كبير منهم من المستوطنيين الذي جاء بهم نظام البعث العنصري في ستينات القرن الماضي ضمن إطار مشروع “الحزام العربي”. ورغم جميع حملات التغير الديمغرافي للمدينة والتهجير القصري، الذي تعرض له سكانها الخوريين – الكرد على يد المحتلين الأكديين والأشوريين قبل الميلاد بألاف السنين، والتعريب الذي تعرضت له منطقة الجزيره الفراتية الكردية على مدى مئات الأعوام، إلا أن الكرد تشبسوا بأرضهم وعملوا المستحيل للبقاء في دريارهم، ولهذا تجد اليوم رغم كل الظلم التي تعرضوا له ومدنهم وبلداتهم، مازالوا يحافظون على طابع المدينة الكردي ومعها طابع المنطقة المحيطة بها التي تضم الكثير من القرى.

نهاية هذه الحلقة وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.

نحن في إنتظار أرائكم وملاحظاتكم ومنكم نستفيد.