يوسف العاني في تلك الأيام-  حامد عبد الصمد البصري

 

عندما دثرني الصمت، وجدت نفسي ، في غابة الذكريات

فحفتني ظلال كثيفة، وتهادت في مخيلتي، رائحة جميلة.

تفيض تراتيل حب ، وتندى بعاطفة متيقظة مرهفة..!

  • 2-

لم  استطع ، أن اسّد ابواب الذكريات.

فأخذت معها قلبي ، لتقطع جبال السنوات

وتخترق اسوار المسافات وتهدم الجدران.

قالت لي وهي تطوقني :-

– قف قليلا ،تمهل، تأمل، وحاول أن تطيب خاطرك..!

– أتسمعني أيها البصري ……؟

– نعم فأنا ابسط كف روحي وأرحل، نعم أرحل

أدق باب الصمت وأحرك أجنحته الباهتة

.في مدينة الشعر ،التمر ،والسواعد السمر – البصرة – وأنفاسي تتساقط مثل المطر

-3 –

حدقّتُ الى فضاءات الايام، رأيتُ يوسف العاني .

يرنو إلى البصرة  ، البصرة الفيحاء، بعينين تبرقان حبا، إعجابا .

وصورته تلملم ُعلى ذاكرتي ،

اسرار الألحان، وتغمر فؤادي ، بنبضات المحبة ، والاستمرارية. .. !

-4-

لأنني بصري، أقف على شواطئ الوجود ، واغسل همومي .

بماء الحروف ، وفي اعماقي الحقيقة راسخة ، متمكنة.

وعلى جناح الذكرى أطير .مع السحب البيض .

مع النوارس.. والعصافير .لأحط على غصن

يوم 1.|3|1979- وأقف أمام لوحاته الكثيرة….

وأذرع الأرض في خطوات تكتحل فيها العيون.!

-5 –                                                                                                                                                                     مشينا معا ، أنا ويوسف العاني ، وقد نثرت البصرة.

على وجهه صباحها. فعانق الأغصان

ليشم أزهار جيكور، ويأكل من ثمار باب سليمان.

ويقرأ ابداع ابي الخصيب ،  ويقلّب صفحات أرضه العتيقة الجديدة.

قال لي: بعد أن حكّ أنفه بسبابته :-                                                                                                                           – صار الهواء هادئا ، يا صديقي ، والشمس متلألئة.

– من اجلك ، فالبصرة  تفتح ذراعيها للطيبين.-

ضحك العاني، وهو يمشي ببطء ، كأنه ، يحترم التراب.

– لن ينتحر العشاق. لن ينطفئ الشعر.-

تركنا خطواتنا ، مثل أنهار من الكلمات.

في أسواق العشار.. خطوة  تنضح بالشوق والانتظار

خطوة ترش عطرها ..خطوة.. خط———وة ..خطوات

تبوح الى البصرة بعض اسرارها  ….

فجأة ابتعدنا عن بعضنا ، لنفسح الطريق الى امرأة.

ثم اقتربنا فقال العاني :-

– أنت شعرت بالحياء من المرأة – وأضاف – أنا –

أعرف طيبة البصريين وأخلاقهم ، وبراءة أبناء أبي الخصيب

انكم – وأنت واحد منهم – ترشون الأرض مودة ..وندى

وتسقون أيامها نبضات التجدد  والتألق و….و…!                                                                                                  فالبصرة منكم صارت أحلى من الورد أنقى من خيوط الفجر..!

– شكرا  اليك  ،وأنت تبالغ في حديثك ،

نحن يا أستاذ ، نقدس الأنسان ونحب الأرض. –

نظرتُ إليه ،فوجدتُ في عينيه تلوح نظرة ملونة ،بالمشاعر والأحاسيس.!                                                                                     أهذه المدينة  التي أنجبت العباقرة على امتداد العصور..؟

أخذت نفسا عميقا وزفرته ، ببطء وتطلعت ُحولي بنظرات مستكشفة ،

ثم قلت ، وأنا الملم شظايا روحي المتناثرة  :-

– نعم هذه المدينة ( القارة) تجفف الدموع وتحدّقُ الى كل الوجوه

وتحدّثُ كلّ العيون .وتنجب الشعراء والفنانين والنخيل

وتميز بين الخيط ألأسود والخيط ألأبيض

البصرة يرفرف كالعشب قلبها وصباحها ياسمين ،

ورائحتها الطلع ، وروحها محبة حتى اليقين ،

وأنفاسها خفة أرواح أبنائها ، وأنت يا (سعيد أفندي )

سترى في لمحات أبناء البصرة ،وفي تطلعاتهم ،

انهم أكثر مما قلت ،فهم اليوم يفتحون إليك أبواب قلوبهم قبل ابواب بيوتهم ،

انهم ينضحون رقة وابداعا  اليك و(للنخلة والجيران)

.على كل حال أنت منكشف هذا المساء ولن تكون وراء الكواليس.

سيكون النقل مباشرا ،وستكون أمام الجمهور ،وجها لوجه ،

ولكنك  ، يا – عبود يغني – ستبتسم كثيرا، وتضحك قليلا،

فجمهور البصرة جمهور إصغاء، وثقافة وأريحية.! ومحبتهم واضحة

في  إشراقات العيون وفي الأكف ، التي ستصفق إليك .

ضحك العاني ،ونحن نمشي في سوق المغايز ( الهنود ) .

ثم بدأ يتأمل البضائع في المحلات ويحدق  الى وجوه المارة والباعة

وقد ترك على وجهه ابتسامة .ابتسامة عاقلة. فيها تفاصيل حياة .

وينابيع عواطف وفراشات ملونة تطرز الفضاء.

ودرنا ودارت بنا الطرقات بلغة حارة ،تخرج عن المألوف ،

والمسافات تخبئ  بين لحظاتها ،تقويم يوم جديد..!                                                                                                                           – أ تتبضّع من السوق – لا.

– لماذا .؟ ألا تشتري هدايا ، لأهلك .لأصدقائك..؟

– أصدقائي كثيرون ،وأهلي أشعلوا ذاكرتي وخطفوا وردة القلب .!                                                                                              – وبعد.؟

– سأقدم لجميع أحبتي ، محبة ،لا ، بل ، محبات.!                                                              -6-

في المساء  ، دنا مني الدكتور زاهد العزي ،وقال بصوت هادئ :- أتقدّم يوسف العاني ..؟

– اعتذر . يا دكتور.!

– لماذا.؟ انت شاعر ،وقضيت معه يوما كاملا ، تتجوّل معه ، وتناولت معه وجبة الغداء

وبالتأكيد كنت ينبوعا متوهجا في إدارة الحوار.!

– لا …أرجوك، أرى من الواجب ، أن تقدمه ،

أنت ،لأنك مدير المركز الثقافي لجامعة البصرة.-

ابتسم الدكتور زاهد ،وقال :-

– الواقع ، إني  ،أثق بوجهة نظرك لأنك دائما تحسن التصرف،

أنت رائع ونبيل وشاعر بكلّ أحاسيسك يا حامد عبدالصمد البصري

– شكرا .يا أبا مروان..

اتجه الدكتور زاهد الي المسرح ،صعد وجلس في مكان المقدم ، وبدأ يرحب بالعاني

ويرحب بالحاضرين، ووجّه دعوته الى العاني ، ليبدأ بحديثه، فتوجهتَ – يا – يوسف ،وصعدت على المسرح .وجلست الى جوار المقدم. رحبتَ اجمل الترحيب بالحاضرين .ثم بدأت ، أيها الرائد، تتحدث عن رحلتك مع المسرح والتمثيل .

كنا، نستمع إليك ،كنت مبدعا في حديثك وجميلا، فأنا كنت أحس ذلك بكل  كلمة أو بكل نبضة حزن أو نبضة فرح، كنت تهتز قلبا، روحا، أنت الصوت وأنت الصدى. والقاعة مكتظة، بالمحبين.

معذرة ، لا أريد أن أطيل ،ولا أريد أن أعلق .فأنت فنان تعي عملك بحق، كنت وبقيت مخلصا لفنك. وابداعك.( كل الأغاني انتهت الا أغاني الناس ). كنت تتحدث بطلاقة ،وكان لحديثك نكهة خاصة ،نكهة ا                                                                                          الذي أعطى  عمره وقوته لينشئ مسرحا حديثا، البصرة .مسرحك الليلة. فالبصرة حاضرة كلها في هذه القاعة، وحين انتهيت. توجه الحاضرون بتقديم أسئلتهم إليك ، وكلهم يقدمون لك باقات من المحبة النابضة بالصدق وببطاقات تعهد هي طريقة مبتكرة للتذكر ، لينتقل عملك الى الآخرين بقيم الاخلاص ، والخير.

– 7 –    كانت امسية رائعة ، رومانتيكية رفيعة ،استغرقت أكثر من ساعتين، تحدثت فيها عن أشياء كثيرة ومترابطة. وكأنك تنظر إلى نفسك، فأنت بحق غير قابل للتزوير، حاضر النادرة، تضعها في موضعها ، من الحديث أو الحوار ، سريع النكتة، وترويها بثوب سرح جميل، ولفظ سهل ممتنع ،وكنت جهوري الصوت ،جريئا بأدب ، وكان في جوابك عن الأسئلة ،حب وكلماتك فصاحة ،نعم أنت لا تمتنع عليك الكلمات .

– 8 –                                                                                                                                                                          يا يوسف …تتذكرك  البصرة.  وأنا أتذكّرك ، أيها الفنان الذى قدّم الكثير.. الكثير بمحبّة أودّعك وبدعاء                                                                        من القلب (اللهم اسكنه فسيح جناتك  )  فوداعا وأنت ترحل إلى دار الخلود، وحتما بقي هذا التذكر قوة نافعة

للأبداع. فلن أنسى يوم 1.|3| 1979إنه يوم لا ينأى. . ولا يجفّ في ذاكرتي أليس كذلك.؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حامد عبدالصمد البصري / شاعر عراقي /عضو اتحاد الأدباء والكتاب / صدرت عشر كتب شعرية (دواوين)/ وصدرت له عشرة كتب نثرية /كتبت عنه دراسات ورسائل جامعية وبحوث ومقالات

One Comment on “  يوسف العاني في تلك الأيام-  حامد عبد الصمد البصري”

Comments are closed.