مشكلة بناء الدولة الوطنية الحديثة- د.ماجد احمد الزاملي

 

منذ تسعينيات القرن العشرين يشهد العالم مجموعة من التغيرات الدولية والإقليمية التي كان لها الأثر الواضح في شكل وطبيعة النظام الدولي عامة، وفى الوطن العربي بشكل خاص، كان من أبرزها وعلى المستوى السياسي انهيار الاتحاد السوفيتي، والطموح الأمريكي المتمثل في النظام الدولي الجديد، وانهيار النظام الإقليمي العربي، والذي ظهر بديلاً عنه الإستراتيجية الغربية وخاصة الأمريكية والإسرائيلية التي بدأت تتبنى مفهوم الشرق الأوسط كمفهوم أمنى واقتصادي وسياسي، والشراكة الأورو- متوسطية، ومجموعة من التحالفات الأمنية العسكرية التي انعكست سلباً على واقع الأمن القومي العربي. بدأ الفكر السياسي العربي في الاهتمام بصياغة محددة ومفهوم متعارف عليه في منتصف السبعينيات، وتعددت اجتهادات المفكرين العرب من خلال الأبحاث والدراسات والمؤلفات سواءً في المعاهد العلمية المتخصصة، أو في مراكز الدراسات السياسية، والتي تحاول تعريف الأمن القومي. الأمن الوطنى للدولة تهدده امور عدة,منها ما يقع داخل حدودها ومنها ما يقع خارج حدودها , وهنالك مهددات داخلية للأمن الوطنى لكنها ترتبط بعوامل خارجية مما يستدعى تدخل الدولة فى دول أخرى لحماية أمنها الوطنى , هذا و أن دولاً أصبحت تَعتبر الأمن الوطنى لدول أخرى هو امتداداً لامنها الوطني , و قد برز تعبير الأمن الوطنى على المستوى السياسي فى العقود الماضية ليُشير للأحداث العسكرية على وجه الخصوص والتوازنات الاستراتيجية وصراعات القوى , غير أنه فى عصرنا الراهن أصبح يشمل تلك التهديدات الجديدة لحياة الإنسان وهي تهديدات ترتبط بالعلاقة بين الإنسان والطبيعة ذاتها , مثلاً نجد أن الدول النامية يُشكل التصحر في بعض مناطقها خطراً كبيراً على أمنها الوطنى اعظم من الخطر الذى يُشكله الغزو العسكرى على أرضها , كما هو العراق الآن والعواصف الترابية, كما يُشكل الانفجار السكانى قلقاً كبيراً للحكومات لأنه قد يصل إلى مرحلة تدمير العلاقة بين الإنسان والبيئة التي يسكنها ويمزق هيكلها ونسيجها الاجتماعي , أما بالنسبة للدول الصناعية المتقدمة فيشكل النضوب السريع المتوقع لاحتياطيات البترول تهديداً للأمن الوطنى أخطر من التهديدات العسكرية التقليدية التى تتعرض لها , و من الطبيعي أن تتكون هذه التهديدات الجديدة نتيجة الضغط البشري المتزايد على طبيــعة الأرض التى نعيش عليها سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر مثل نقص المواد الغذائية ومصادر الطاقة وتغيرات الأحوال الجوية و كلها تترجم إلى ضغوط اقتصادية على اﻟﻤﺠتمعات البشريـــة مثل التضخم والبطالة ونقص رأس المال , الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى قلق واضطراب اجتماعي يعقبه توتر سياسـي وعدم استقرار عسكرى. يشمل الأمن الوطني أبعاداً متعددة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية، ذات مكونات عديدة. وهي الأبعاد الرئيسية للأمن الوطني. يرتكز الأمن الوطني على قوى متميزة لحمايته، وهي في مفهومها الأولي عسكرية، إلاّ أنه من الممكن أن تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. أن القيم الداخلية للمجتمع، بكافة أنواعها، هي الأولى بالحماية. أما البعد الخارجي فيتصل بتقدير أطماع الدول العظمى والكبرى والقوى الاقليمية في أراضي الدولة ومواردها، ومدى تطابق أو تعارض مصالحها مع الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتحكمه مجموعة من المباديء الاستراتيجية التي تحدد أولويات المصالح الأمنية. وكذلك البعد الاقتصادي الذي يعني توفير احتياجات الشعب الاساسية والوصول إلى حد الكفاية ثم الرفاهية الاقتصادية كذلك الحفاظ على البعد الاجتماعي الذى يهدف إلى توحيد المجتمع وازالة الانقسامات بين افراده وجماعاته المختلفة ومناهضة خطابات الكراهية والتحريض والاستئصال المجتمعي بما يساعد على تنمية الاحساس بالولاء والانتماء للدولة بين كل افرادها كذلك ضرورة الحفاظ على البعد المعنوي المتعلق بحماية حرية المعتقد الديني والفكري وممارسته وتأمين الدعوة إليه دون تمييز بين معتقد وآخر ولا بين أغلبية وأقلية وأخيراً الحفاظ على البعد البيئي الذى يوفر تأمين البيئة والحفاظ على الموارد والثروات ومحاربة مسببات التلوث التي تهدد الدولة فى الحاضر والمستقبل. ولا يمكن الادعاء بحماية الأمن القومي اذا لم يتم الحفاظ على البعد السياسي ويتمثل فى الحفاظ على الكيان السياسي للدولة وأليات تداول السلطة وسلميتها دون تزييف لارادة الجماهير ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة. وأصبحت حقوق الإنسان شأنا عالميا وليس محليا وأصبح انتهاكها مبررا مقبولا للتدخل الدولي السياسي والاقتصادي والعسكري. وأصبحت حماية حقوق الإنسان والشفافية والديمقراطية مطالب سياسية تدخل في علاقات المؤسسات الاقتصادية العالمية مع الدول(مثل اتفاقية كوتونو-برنامج الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا وقبلها وثيقة السوق الأوربية التي ربطت المعونات بالحكم الديمقراطي,احترام حقوق الإنسان ومحاربة الفساد والديمقراطية وحرية الصحافة).وظهرت مقاييس جديدة في تصنيف الدول منها مقياس أو مؤشر حرية الشعب . فى الوقت الذى أخذ فيه النظام الدولى يشهد تطورات مهمة فى هيكليته منذ سقوط النظام ثنائى القطبية، بدخول فواعل جدد نظام عالمي يجمع بين عضويتة الدول من ناحية، والعديد من المنظمات والهيئات ذات التأثير القوي فى السياسة الدولية مثل المنظمات الإقليمية والشركات متعددة الجنسية ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين من ناحية أخرى، فإن النظام العالمي الجديد الذى أخذ طابع القطبية الأحادية، أملاً فى أن يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، شهد بروزاً مهماً لدور الأقاليم على حساب قيادة النظام العالمي وأيضاً حساب دور الدولة الوطنية، بحيث أخذت تفاعلات الدول داخل أقاليمها الخاصة تتنافس، وأحياناً، تتفوق على علاقتها بقيادة النظام العالمي ومنظمته العالمية (الأمم المتحدة). فلم يعد التهديد هو العدوان العسكري المباشر المعلن بل تطور ليشمل التهديد المحتمل والذي قد يكون مثلا,امتلاك أسلحة دمار شامل أو إيواء جماعات إرهابية أو غيرها.وتطور هذا الحق ليشمل مفهوم الحرب الاستباقية لمنع التهديد المحتمل.ولم يعد هذا الحق يتم عبر الأمم المتحدة حالة الناتو في كوسوفو. الوجود العسكري الأجنبي لقوات بزعامة الولايات المتحدة الامريكية في مواضع عدة من بلدان الخليج العربي ومياهها الإقليمية. وعلى هذا الاساس ، يمكن أن نقرأ الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، بوصفها أهم المداخل لدراسة وتحليل التحولات الجذرية في المنطقة. فالولايات المتحدة هي الأداة المسيطرة على المنطقة، والقوة القابضة على ميزان القوى فيها، وعلى ضبط توازنه فلا تختل القوى بما لا يرضي الإستراتيجية الأميركية. وكان يمكن الإستراتيجية الأميركية أن تخفف من ثقلها العسكري في المنطقة بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال خطر المنافسة السوفيتية. ولكن أسباباً عديدة مثل -الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي، وحماية إسرائيل، واحتكارها السلاح النووي، والعمل لتأصيلها في المنطقة وتمهيد السبيل أمام بسط هيمنتها على المنطقة، وبخاصة في البعدين الاقتصادي والأمني، من خلال تفكيك الرابطة القومية العربية، وتذويب مقومات هويتها، وإعادة تركيب المنطقة من قوميات ولغات وعروق متعددة، وتدمير أية قوة عربية تنحو نحو التمرد على الإستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية، والسيطرة على منابع النفط وممراته – دعت الولايات المتحدة إلى تبني مشروع النظام الشرق الأوسطي، القائم على مبدأ تشارك وتقاسم المسؤوليات الأمنية بين دول المنطقة، واهمها إسرائيل و تركيا.

أن مشكلة بناء الدولة الوطنية الحديثة ما تزال تطرح على مجموعة من الدول التي خضعت للاستعمار الأوروبي. ففي معظم أقطار الوطن العربي كانت المشكلة مطروحة رغم أنها شهدت محاولات عديدة لإرساء دعائم الدولة الوطنية وتجسير الفجوة بين المجتمع والدولة وتسيير المؤسسات وفق تمثيل شرعي يقوم على قاعدة المشاركة العادلة في السلطة وفي صناعة القرار الاقتصادي وفي بناء واستكمال بناء الدولة والاقتصاد والمجتمع المدني. مع ذلك فإننا نجد في الوطن العربي، صورة فريدة لتحول المؤسسات العسكرية إلى أجهزة بيروقراطية تلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على النظام السياسي، وتشارك فئات منها في إدارة الاقتصاد المحلي بشكل سافر أو عبر أفراد من العائلة. وباتت المؤسسة العسكرية في كثير من الأقطار العربية تتصرف كجماعة متماسكة تدافع عن مصالح المنتسبين إليها ويقيم قادتها تحالفا وثيقاً مع رجال المال والأعمال، وتلعب دورا أساسيا في حماية القوى الاقتصادية الصاعدة فتؤمِّن لها الحماية مقابل المشاركة في الأرباح.

ويشير عدد من الاقتصاديين العرب إلى وجود ضغط مباشر مارسته القوى العسكرية لرسم سياسات اقتصادية جديدة قامت على بيع القطاع العام للقطاع الخاص(1) ,لكن الجيوش العربية أبعد ما تكون عن أداء وظيفة الأمن الوطني والقومي إذ ما تزال وظيفتها تقوم على حفاظ أمن الحكّام وليس النهوض بالتنمية الاقتصادية.

ان قيام مشروع الدولة القطرية لسد فراغ سياسي وسلطوي ومؤسساتي وإداري بيروقراطي، والدولة في جوهرها واقعة اجتماعية, ولم تتكون على نحو عضوي وإنما هي بنيان اجتماعي قام بناءً على ظروف اجتماعية موضوعية تفاعل الأفراد معها، ثم صاغوها بعد ذلك بالهيأة التي تُعرف اليوم بالدولة. ومن هنا فهي تختلف عن كل أشكال التنظيم الأدنى منها (العائلة والعشيرة)، حيث تلعب التلقائية دوراً مهما في تكوينهما. والدولة أيضا، ليست ظاهرة مادية ولها وجود محسوس، وإنما هي بنيان أقامه التفكير الإنساني لفرض التنظيم الاجتماعي، وعليه فهي مبنية على أسس قانونية وتبرز إلى الوجود عندما يتطور الوعي الجماعي إلى حد يرفض أفراد الجماعة عَدَّ كل التنظيم الاجتماعي قائما على إرادة فرد أو عدة أفراد فقط. ومهما كانت المميزات الرفيعة التي يتمتع بها هؤلاء الأفراد المتفوقون,  فالدولة جزء من المجتمع تنبثق منه وتتخذ لها مكانة عالية لكي تقوم بدور تنظيمي له. وإذا ما أصبح لها كيان متميز أخذت بتعزيز مركزها عن طريق ممارستها للسلطة(2).والدولة في الوطن العربي تعاني من قصور في المفهوم والمضمون، فمفهوم الدولة تعترضه جملة من الإشكاليات تكسبه خصوصية، وتسميه بما يعانيه من قصور مضموني يجعل المفهوم بعيدا عن مفهوم قويم للدولة. من جهة أخرى فان تلك الإشكاليات وفرادة التشكيل جعل الدولة في الوطن العربي تتسم بجملة من الخصائص لكل منها أسبابه ومشكلاته وتنتج صورة للتشوه في فعل الدولة ودورها وما قد تقوم به. لذا فليس غريبا أن تعاني من أعراض واضحة لأزمة تلم بها وتؤثر على الاقتصاد والمجتمع المدني على وجه الخصوص.

وللتحولات الهائلة في الفكر السياسي الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد الإطاحة بالنظام القديم والتخلص من فكر أزمنة العصور الوسطى ، دور بالغ الأهمية في ظهور نظام جديد أبرزت فيه على وجه الخصوص نظريات العقد الاجتماعي من خلال أفكار روادها هوبز و روسو و جون لوك مما أدى الى ما يعرف بالمجتمع المدني والذي كان يُقصد به تلك المؤسسات الاجتماعية التي تقف على المسافة الفاصلة بين الفرد بصفته عضواً في الأسرة والدولة ، حتى وإن اختلفت المفاهيم التي تناولت ذلك بين ما كان سائداً وما عرفه مفهوم المجتمع المدني في القرنين التاسع عشر والعشرين من تطور أدى به أحياناً في اتجاه المغايرة والاختلاف ، ولا يعدو ذلك كونه نوعاً من التلخيص التجريدي لما عرفته كل من الدولة(بمؤسساتها ) و المجتمع( الشعب القاطن في أقليم الدولة) من تحوّل وتطور سواءً من حيث البناء الداخلي أو الذاتي لكل منهما ، أو من حيث العلاقة التي تقوم بينهما فتكون هنالك للدولة إرادة في السيطرة أو في الاحتواء ويكون من المجتمع نزوعاً نحو المزيد من الاستقلال والتمايز عن الدولة ودعوة إلى التقليل من ثقل حضورها.إن التجربة السياسية كانت نتائجها وثمرتها هو تأليف ابن خلدون في التاريخ وعلم الاجتماع العام والسياسي والاقتصادي وغيرها من الأفكار التي ظهرت على شكل موسوعة علمية ينهل منها المفكرون على اختلاف مشاربهم، وتعتبر آراءه مرجعية في كثير من العلوم والفنون والسياسة، والأخيرة هذه كانت شِغلهُ الشاغل وهاجس بدأ معه منذ توليته أول وظيفة عمل بها إلى أن عكف على التأليف والكتابة. وكتب في السياسية وهو بعيداً عنها، وإذ لم يكتب ابن خلدون في السياسية، إلا أنه كتب في مقدمته وتاريخه الطويل كلاماً كثيراً فيها، فتحدث عن الدولة وأطوارها ومراحل تكوينها وانهيارها، وتكلم عن المُلك، والخلافة، والبيعة، والوازع، والعصبية وأثرها في السياسة والرئاسة. وفى فصل خصصه للسياسة و أن العمران البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره.

وقد كرّسَ ميكافيللي جلَّ مؤلفاته لإنتاج مفهوم جديد للسياسة بصفتها علماً وضعياً منفصلاً عن الدين والأخلاق، إذ كان ببساطة ينزع إلى تخليص السياسة من أي اعتبار خارجي، وإلى جعلها علماً مستقلاً بذاته. ورغم تعدد مؤلفاته وتنوعها، إلا أن أبرزها هو كتاباه، الأمير والمطارحات. ويمكننا النظر إلى الفكر السياسي، الذي عبرت عنه الحركة الإنسانية في عصر النهضة الأوروبية، بإعتباره اتجاهاً آخر يختلف عن النزعة الميكافيللية في مرتكزاتها الفلسفية وتوجهاتها ومقولاتها، ويتناقض معها. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى نقطتين أساسيتين: الأولى أن الحركة الإنسانية قد ركزت بشدة على الفضائل العامة، وعلى القيم والقواعد الأخلاقية والدينية، وأولتها أهمية كبرى في تصوراتها وأفكارها السياسية. بينما نَحَت النزعة الميكافيللية بإتجاه آخر، وشددت على النزعة الفردية والأنانية، ولم تبالِ بالفضائل والقيم إلاَّ بمقدار نفعها، ودعت إلى إلتزام الحياد فيها.

إنَّ إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في العالم العربي على أسس جديدة, يعني الانتصار على الإرهاب في بعده الاستراتيجي ،على أن تستثمر هذا الدولة الوطنية بوصفها الخيار الأيديولوجي والمشروع الثقافي للأمة في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي، عبر تبني المفاهيم القائمة على التعددية الفكرية والسياسية ،وفكرة المواطنة، وبناء دولة القانون، أي دولة المؤسسات الدستورية وإعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية، والتأكيد على مرجعية احترام حقوق الإنسان، والحريات الشخصية والاعتقادية، والديمقراطية. فالمشروع العربي الديمقراطي، هو الخيار العروبي الوحيد للدولة الوطنية، الذي من خلاله يمكن للشعوب العربية، أن يبنوا مستقبلهم السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن يؤسسوا عبره وحدتهم الوطنية والقومية الحقيقية، بعيداً عن الانقسامات المذهبية والطائفية.

فمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية والموقعة عام 1950م، قد أشارت إلى التعاون في مجال الدفاع، ولكنها لم تشر إلى “الأمن”، ونصَّت المادة الثانية منها على ما أطلق عليه “الضمان الجماعي”، والذي حثَّ الدول الأعضاء على ضرورة توحيد الخطط والمساعي المشتركة في حالة الخطر الداهم كالحرب مثلاً. لقد كان لغياب الإستراتيجية العربية الموحدة من ناحية, وتنامي القوى السياسية لدول المنطقة العربية بسرعة من ناحية أخرى، وميل كل منها نحو صناعة عمق استراتيجي لقوتها من ناحية اخرى، الأثر البالغ في تقسيم العمق العربي الكبير إلى وحدات إقليمية أصغر، مما ساعد على توفير المناخ المناسب لتركيا من الضغط على الشمال الشرقي للمنطقة العربية لصناعة عمق استراتيجي لها، وتقوم إسرائيل بتعقيد خريطة الصراع على العمق الدفاعي والاستراتيجي بتعميق الخلافات والصراعات وتفريغ المنطقة العربية من إمكانات التنمية من ناحية، ومحاولة تحطيم الآلة العسكرية للقوى المتنامية من ناحية ثانية، وصناعة عمق أمني لها وقت السلم، ونقل ساحة المعارك إلى أراضى الدول العربية المجاورة وقت الحرب، ومراقبة الصراع على العمق العربي من ناحية أخرى, مما جعل مفهوم الأمن القومي العربي يتراوح بين الأماني القومية ، والأحداث التي أثبتت عدم وجود هذا المفهوم. غياب الدور الفاعل للمؤسسات، قضية المركزية الشديدة، صَغّر حجم النخب السياسية الحاكمة،عدم وجود أحزاب سياسية فاعلة في معظم الدول العربية إضافة إلى عدم الشفافية السياسية وأزمة تفعيل النظام والقانون وانحياز أنظمة الحكم للأعراف والممارسات المتكررة التي تحمل معنى التراضي للتخلص من قيود النصوص الدستورية والقانونية وجمود الهياكل السياسية وضعف وسائل المشاركة والرقابة الجماهيرية إلى جانب المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. إن شمولية الأمن تعني أن له أبعادًا متعددة.. البُعْد السياسي.. ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة.والبُعْد الاقتصادي.. الذي يرمي إلى توفير المناخ المناسب للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير سبل التقدم والرفاهية له.والبُعد الاجتماعي.. الذي يرمي إلى توفير الأمن للمواطنين بالقدر الذي يزيد من تنمية الشعور بالانتماء والولاء.و البُعْد المعنوي أو الأيديولوجي.. الذي يؤمِّن الفكر والمعتقدات ويحافظ على العادات والتقاليد والقيم.والبُعْد البيئي.. الذي يوفِّر التأمين ضد أخطار البيئة خاصة التخلص من النفايات ومسببات التلوث حفاظا علىً الصحة العامة.

وقد أصبح في العالم نتيجة التطورات الدراماتيكية  قوة أحادية عسكرية ونتيجة لذلك أصبح من حق الولايات المتحدة أن تحلم بشأن الشرق الأوسط والمناطق الأخرى ساعدها عاملان على ذلك:أولهما لم يعد هناك خوف من أن تقود التوترات الإقليمية إلى مواجهة بين القوى العظمى،والعامل الثاني  لم يعد من الواجب على الولايات المتحدة الدخول في نزاع مع دول تزيدها شراسة . إضافة لذلك برزت تحولات أساسية في المفاهيم وهو باختصار سيادة الدولة على أراضيها وحقها في اتخاذ القرارات والسياسات والتشريعات فوق أراضيها،وحقها في الحصانة من التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية. شهد مفهوم السيادة استقرارا نسبيا في النظام الدولي -طوال فترة الحرب الباردة-أما في المرحلة الحالية فقد شهد تطورات نوعية إذ تم تدويل السيادة ,إذ أصبح على الدولة أن تلبي شروط المجتمع الدولي لتتمتع بالسيادة على أراضيها،فتقلصت حدود السيادة السياسية وزاد التدخل الدولي لمبررات كثيرة منها التدخل الإنساني, حقوق الإنسان,حماية الأقليات وغيرها وتنامي دور المنظمات غير الحكومية. لقد بات التدخل إجباريا على الدول عبر المنظمة الدولية أو حتى خارج مظلتها,كما حدث من حلف الناتو في كوسوفو.بل وتم وضع دول ذات سيادة تحت الإدارة الدولية مثلما حدث في كوسوفو وتيمور الشرقية اللتين وضعتا تحت إدارة دولية انتقالية.

——————–

د. مسعود ضاهر المشرق العربي المعاصر .. من البداوة إلى الدولة الحديثة 2015 -1

صادق الأسود، علم الاجتماع السياسي، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1973، ص 95-91-2