أنا ولجنة التحديد والتحرير- 12 – د. محمود عباس

 

فإبقاء الماضي حيا في الذاكرة من ناحية الاستفادة وأخذ العبر منه ضرورة نضالية لكل منشغل بالقضية التحررية، من كان وأين كان. كما يقال: “من يجهل التاريخ” سيعيده”. لهذا السبب الحفاظ على تاريخنا النضالي المرير ضرورة لا نافلة منها ولا يمكن التغاضي عنها أو عدم الاكتراث بها!

ومنذ ما يزيد عن قرنين من النضال لم تبرد سبطانات بواردنا إلى اللحظة من أجل إكساب المنشود، غير أنه لم يتحقق؟ ربما لو بحثنا في أسباب هذا الفشل المتكرر على مدى مائتي عام ويزيد، قد لا نخرج بنتيجة تؤهلنا إلى الفوز بالمطلوب. هذه الظاهرة المتكررة معنا نضاليا تعد عادة سيئة لا ننفك عنها، وهذا بدوره يؤدي إلى عدة عوامل كامنة في أسلوب تفكيرنا، وأبرزها تكرار التجربة السابقة ظانّين أنها ستنجح في هذه المرة، وهذا ما نفعله طوال قرنين من الزمن ويزيد!

لنعيد النظر فيما قمنا به على مرّ كل تلك الحقبة، ونقارنها بما نقوم به حاليا، فإذا وجدنا إحرازا ملحوظا، حينها يمكننا أن نثق بأننا على الطريق الصحيح، غير أن ما هو ملحوظ حاليا لا يختلف عمّا كانوا عليه من سبقونا؟ فجمهورية مهاباد، وكوردستان الحمراء، وبيان الحادي عشر من آذار كلها كانت ملحوظة وموجودة على أرض الواقع؛ لكنها تلاشت بطرفة عين، وصارت في خبر كان.

سؤال يراودني طارحا نفسه عليّ، وهو: هل اتّعَظْنَا بما مضى؟

أنا شخصيا غير مقتنع أننا اتّعَظْنَا بما سبق، طالما لم نتّعِظْ، هذا يؤدي إلى سؤال آخر مفاده: إلى متى سنظل نكرر المجَرَّب؟

إلى متى؟

أحتار كثيرا من ذاتنا، وأكاد أفقد الأمل أننا في يوم ما سنكف عمّا نكرره من هذا الخطأ المميت، وكوردستاننا تذوب يوما بعد آخر؟ ونحن ماضون في تكرارها بلا نهاية، فعلى سبيل المثال، تتبين من مضمون كتاب الرحالة الإنكليزية ( الليدي آن بلنت) (قبائل بدو الفرات في عام 1878) أن العشائر العربية لم تكن قد اجتازت نهر الفرات حتى تلك الفترة الزمنية، وهي العشائر التي هاجرت من منطقة حائل بعد خسارتهم أمام آل السعود، وجلهم كانوا منتشرين على طول المجرى الغربي والجنوبي لنهر الفرات باستثناء منطقة الأنبار، ولا تأتي على ذكر أي مركز حضري لتلك القبائل باستثناء مدينة دير الزور، ولا عن أي حضور لهم في الضفة الشمالية لنهر الفرات في منطقة الجزيرة، باستثناء قلة تمكنت من تجاوز مجرى النهر بحثا عن الكلأ لمواشيها، في الوقت الذي كانت فيه العشائر الكوردية تسكن قرابة 453 قرية ما بين عين ديوار وعفرين، وجغرافية الجزيرة حتى الضفة الشمالية لنهر الفرات كانت مراع لهم، لكن وبعد مرور قرن ونيف أو أقل أصبحت الجزيرة تدرس من البعد الديمغرافي على أنها منطقة كوردية بأقلية كوردية، وهذا ما أعطت الجرأة لبعض الكتاب والسياسيين العروبيين تقييم واقع الجزيرة واليوم عفرين ضمنا على أنها منطقة عربية، من حيث النسب السكانية فيها الأن، متناسين مسيرات التوطين العربي والتغيير الديموغرافي والتهجير الكارثي للكورد.

بعد اندلاع الثورة السورية وظاهرة داعش طرأ تغيير مهم على القضية الكوردية، فبدأ اهتمام الدول المعنية بالمنطقة يعيرونها شيئا من الاهتمام، ولم تعد للأجهزة القمعية لسلطة البعث ذلك الباع الطويل في الاعتقال متى شاءت وفيمن رغبت. واليوم يبدو كأن في جنوب غرب كوردستان مظهر آخر للكورد والكوردية على حدٍ سواء، حيث تعتبر الكوردية هي من تهيمن على مساحة تمتد من منبج إلى ديركا حمكو. هذه الحالة من المفروض أن تكون قد باشرت وبالسرعة الممكنة من تغليب المظاهر الكوردية على هذه الرقعة. على الأقل، هذا مطلبنا نحن ممن يهتمون بقضيتنا الكوردية.

ما نراه اليوم من مدارس كوردية من أدنى مرحلة إلى المرحلة الجامعية كوردية، والدوائر الرسمية كوردية، وحرّاس الحدود كورد وبإدارة كوردية… كل هذا مغاير كليا عمّا كان الحراك الكوردي عليه فيما مضى. رغم هذه المظاهر يبدو أن الضعف هو سيد الموقف، ومن جانب آخر وجود مربعات جهاز أمن سلطة دمشق موجودة تمارس نشاطها، وإن لم يكن كالسابق، إلا أنها موجودة وشرعية. وعلاوة على هذا توجد قوات أجنبية على أراضي سوريا السابقة بشكل عام. وتدخل من الجيران في الشأن السوري قائم، قصف مدن وقرى كوردية من قبل تركيا جارٍ، وسوء الحالة الاقتصادية للمواطنين حالة مستدامة، والمناوشات الكوردية الكوردية تطفو على السطح بين فينة وأخرى، وغيرها كثير.

نظرا لما أوردناه أعلاه مدعاة للإمعان فيه والبحث عن سبل الاستفادة من هذا الظرف القائم في منطقتنا الكوردية للارتقاء بها إلى ما كنا نسعى إليه، ومن أجله عانينا الأمرّين عمّا مضى.

فضلا عن كل هذا تم تغيير ديموغرافي لجغرافية كوردستان في هذا الجزء الملحق بما تدعى سوريا. فالديموغرافية الجغرافية من الركائز المهمة لأي شعب كان، وبدونها يبقى هذا الشعب عالا على من يحل عليه من الشعوب ذات الأرض، كمثال الشعب الغجري، شعب بلا أرض، وأينما وجدوا اُعْتُبِرُوا غرباء.

أرجّعُ هذا التغيير الحاصل دليل على الضعف القائم، والمنطق يدعو، في هذه الحالة، إلى العمل الدّؤوب لإزالته قبل كل شيء، فخسارتنا لديموغرافية كوردستاننا، مؤدّاها الانزلاق إلى حالة الشعب الغجري، وفي أفضل الحالات إلى مصير الهنود الحمر في أميركا وكندا، أي تحتفظ بنا البشرية في المحميات. وفي كل الأحوال، سوف نُعتبر غرباء كما حال من لا يملك أرضا أو من فقدها، وأميركا وكندا يكفينا كشاهدين، حينها لا تنفع مدارسنا ولا مؤسساتنا ولا كوننا حرّاس الحدود أو أصحاب جنود وجيش وغيرها من هذه المظاهر الكوردية البادية للعيان في وقتنا القائم…

يتبع…

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

12/2/2024م