فَصَاحَة العُشّاق – بقلم فرياد إبراهيم

 

 

في أيام دراستي المتوسطة كنت يوما منهمكا بحفظ القصيدة المشهورة لكعب بن زهير:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ- متيّم إثرها لم يفد مكبولُ

سمعني والدي وهو في المطبخ يضع نان، خبز رقاق، أمي على المدفأة النفطية علاء الدين يحمّصه و يحمّره.

فناداني وخاطبني قائلا:

-اقرأ البيت من جديد.

ففعلت.

أنصت إلي بانتباه فلم أكد أصل الى آخر كلمة منه الا أن شهق ضاحكا ضحكا عنيفا وقعت طاقية رأسه من جرائه من على رأسه الأصلع.

ثم جعل يردد مع نفسه مستهزئا:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبوِّلُ…؟!

ثم نظر في عيني لاويا فمه وبعض رقاق الخبز عالقة على سطحه:

-هل بُلتَ في فراشك الليلة الفائتة ؟

ولم ينتظر الجواب إذ هتف مشدّدا:

-قل متبول ، متبول بلا شدّة.

عجبت من أمره فقلت في ما يشبه الأحتجاج:

-وماذا يعني ذلك؟

-يعني تبله الحب ، اصابه وأنهكه، فاصفر وشحب من أثر العشق

وجعل يضحك ولا يشبع.

*****

مضى بضع سنين لم “ابُل” بعد ذلك اليوم قط. وتحسنت لغتي العربية تحسنا ملحوظا.

فسمعته يوما أمام نفس المدفأة التأريخية، بينما أمي تخبز في ركن قصي من البيت الواسع، سمعته يدندن بهذا البيت:

وأحسن منك لم تر قط عين – وأجمل منك لم تَلِدِ النساءُ

فاقتربت منه واسـتأذنته فأذن لي، فقلت:

-بيت جميل يبدو انه لشاعر عاشق.

فسجلته في دفتري.

وفي نفسي أمل في أن أقرأه في اليوم التالي على جميلة زميلتي الجميلة في الصف. فقد بدت في عينيّ أجمل ما في الكون.

وحينها تكلم أبي هكذا:

-امّا أنه عاشق فهو عاشق، نعم، ولكنه عشق من طراز خاص.

فتسائلت بشغف:

-كيف ؟ وأي نوع؟

-هذ ا بيت من قصيدة مدح لرسول الله وسيد الكائنات صلى الله عليه وسلم.

وكان والدي يعشق النبي محمد ويذكره دوما وكان أمله الوحيد والى ان وافاه الأجل أن يراه ولو لمرة واحدة في حياته في المنام. ولكنه لم يحالفه الحظ. وظلّ لسان حاله يقول : ” من رآه في المنام كمن رآه حقا.”

*********

وكبرت وصرت شابا وكان أعطانا الحرية للكشف والبوح بما يجول في قلوبنا وفي خواطرنا وحثنا على ذلك قائلا : “انا خبرت الحياة بخيرها وشرها. أخشى إن اخفيتم عليّ أمرا أن وقعتم في مزالق ومهالك ومهاوي لا مخرج منها.”

فأبحت له بهيامي للفتاة الجارة التي غرقت الى أذني في حبها وخاصة طريقة مشيها التي شابهت مشية الحجلة ( القبج).

جلست قبالة أبي على الطرف الآخر من المدفاة فقلت له بهمس وبخجل شديد وهو يقرع بطرف سبابته الصلبة على قاعدة المدفاة قرعا رفيقا.

-أبي ، اظن انني عاشق.

-صه.

انطلقت هذه الكلمة كالرصاصة من فمه المزموم.

وثبتُّ من مكاني وتراجعت الى الوراء حتى ارتطم ظهري بالحائط فوقفت هناك متسمّرا. تسائلت:” هل أغضب إعترافي بذاك الشئ المحرم أبي؟”

كلا.

السبب كان نان ، خبز رقاق، أمي. كاد ان يحترق أذ نسيه على المدفأة في غمرة أنشغاله بوجودي. وكان يفوح منه رائحة تعدل كل روائح هولندا بزهورها وورودها وعطورها الثمينة. وعلى عجل أزاح كسرة الخبز من فوق الغطاء وأخذ يقلبها بين يديه يتفحصها وقد احمرّت الى حد القتمة فراقت له.

آنس وجودي هناك ملتصقا بالجدار فرفع رأسه الي وقال بهدوء مصحّحا أولا:

-ألصواب أن تقول أصبت بداء العشق.

ثم:

-ابني اسمع، انّك تعترف الآن بأنك عاشق، ولكن قل انك كاذب.

لم أنبس بحرف احتراما.

ولم أحتج ولم أحتج الى اي عناء للسؤال فالتفسير والشرح كان سيأتي لاحقا حتما. فقد كان معلما حتى في بيته. فقال وهو يغرز كسرة أخرى في اللبن:

-لست عاشقا ، العاشق الصحيح غير المغشوش يصاب باعراض مرضية عديدة كالأرق ، آلآم البطن والحمّى وفقدان الشهية وانت تأكل حصّة ثلاثة اشخاص. ثم انه يعجز حتى عن البوح بما أصابه وبث شكواه الا الى نفسه وذلك عن طريق قرض الشعر والغناء وما الى ذلك من فنون التنفيس. وها انت تقولها بملأ فيك.العاشق الصحيح يعجز حتى عن النطق، اسمع اسمع يا عاشق البطيخ ، ماذا يقول الشاعر المحدّث:

وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت  –  عينييّ في لغة الهوى عيناك

والقديم:

العيُّ ان ذُكر الحبيب بلاغة ٌ-  وفصاحةُ العشّاق أن لا يُفصِحوا

*

فرياد