الصحيحة والجرباء- كامل سلمان

البيت الشعري القديم ( لا تربط الجرباء حول صحيحة ، خوفاً على تلك الصحيحة تجرب ) أصبح هذا البيت الشعري يحاكي واقعنا في الحياة ويؤكده ، فكم من صديق سيء كان سبباً لإنحراف صديقه الطيب وضياعه بسبب ارتباطه به ، وكم من إمرأة شريفة عفيفة سقطت بالرذيلة بسبب إمرأة أخرى تعيش الرذيلة أقتربت منها فسحبتها إلى مستنقع الرذيلة ، أما على مستوى الأوبئة أو الأمراض المعدية فلا حاجة الى ربط المصاب المعدي بالشخص المعافى ، فيكفي الرذاذ المتطاير من عطسة أو تلامس المواد المستخدمة من شخص لآخر لنقل الفايروس وانتقال العدوى ، وكلنا نتذكر ماذا فعلت جائحة كورونا بالناس بسبب سرعة إنتقال العدوى بالتلامس او الاقتراب من بعض . في هذا الموضوع لست بصدد البحث حول انتقال العدوى الجرثومية أو الفايروسية أو التأثير الأخلاقي عند مصاحبة الإنسان السيء، فهذه أمور أصبحت من بديهيات المعرفة ، لكن الغريب في عالم اليوم وهو محور حديثي في هذا المقال هو انتقال الجهل ولا أقول انتقال المعرفة ، لأن المعروف علمياً أن المعرفة هي التي تنتقل بالتقارب والتواصل والتعايش مع أصحاب المعرفة أو من خلال التعلم ، ولكن ما يحدث هو مالا يصدق ، أي عكس سير التركيبة البشرية ، اليوم نرى بوضوح الجهل هو الذي ينتقل و يغزو العقول ، ينتقل بسرعة خيالية أسرع من جميع الأوبئة ، وياليته جهل عادي بل هو جهل مركب وممزوج بالخرافة يكتسح عقول كانت إلى حد كبير عقول صحيحة . من الأشياء التي أذهلتني أنه تذهب إلى موقع إلكتروني ينشر فيه مقالات علمية وفنية وثقافية ورياضية ، وفجأة تلاحظ بروز موضوع ينشر بين هذه المواضيع المغذية للعقل موضوع مليء بالخرافة والتخلف والحقد والكراهية والإنحراف ، وفي اليوم التالي يصبح هذا الموضوع الجديد الواطىء ترند ذات إقبال جماهيري كبير ، ثم تلاحظ التعليقات والمتابعات والاندماج معها بالالاف وقد تصل للملايين . بحيث تصير الحالة في معظم الأحيان أن المواضيع العلمية والثقافية الصحيحة تصبح تراث من الماضي ومن المهملات لا شأن للمتابع بها ، وكأن هناك صنف من الناس قد تفاعلوا بشكل عميق مع الأفكار العقيمة وتقبلوها رغم خلوها من القيمة العلمية والأخلاقية والمصداقية و لم يعد يتقبلون ماهو صحيح . ليس غريباً أن ينتقل الجهل كالوباء ، وليس غريباً أيضاً أن ينتقل الغباء كالوباء . كل شيء غريب لا يمكن تصديقه أصبحنا الان نصدقه بل ويقوم بعضنا بالترويج له . ويستمتع به ، ويتخذه سبيلاً لمحاربة أهل الثقافة والعلم . ثلاثة من الأشياء تغلب عقول معظم الناس بلا منازع في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي والمسموع ، وهي اولاً الخرافات ، وثانياً اخبار المشاهير ، وثالثاً المسابقات الرياضية او الفنية وغيرها ، الخرافات زحفت بقوة على العقول بشكل استثنائي ، فأخبار الأبراج ، وتوقعات قارئي الفنجان وتنبؤات السحرة ، والمنقول على السن الناس حول الأشباح وحول القصص الخيالية وخاصة قصص الرعب أصبحت تغطي مساحات واسعة من التغطية الإعلامية لزقها في عقول الناس نظراً لجاذبيتها وعدم وجود التفسير العلمي لها ، فمثل هذه الخرافات أو الخيالات تكون ذات قدرة على اختراق عقول الجهلاء وعقول معظم النساء والمراهقين . أما اخبار المشاهير من رياضين وفنانين وغيرهم فقد أصبحت الشغل الشاغل للنساء والرجال وخاصة الشباب ، فهناك محطات تلفزيونية تنقل اخبارهم على مدار الساعة . اما المسابقات الرياضية المستمرة والبطولات المحلية والدولية اضافة إلى مسابقات جوائز الأوسكار ومسابقات ملكة الجمال والمهرجانات فأن متابعيها يمثلون النسبة الأكبر بين سكان الارض ، لا ضير أن يتابع الناس بما هو للتسلية أو الراحة النفسية او للمنافسة أو لزيادة المعلومات عما يدور في عالمنا ، لكن ان تتابع وتتأثر بما هو ملوث للعقول ، تتأثر بما يصب الحقد والكراهية بالعقول ، تتأثر بما يثير الفتن والتعصب ، فهذه هي الطامة الكبرى . نحن بالحقيقة نمر بمرحلة خطيرة خاصة أن تشاهد من على شاشات التلفزة شخصية علمية أكاديمية مرموقة في أختصاص علمي مرموق جالس على الأرض يستمع كالطفل لمشعوذ وينقاد له ، أو تلاحظ كاتباً معروفاً في كتاباته ينشر مئات المقالات للدفاع عن دجال أو يكتب لصالح جهة مارقة موغلة بدماء الأبرياء ، أو صحفي أو سياسي يعتبر الخيانة والذيلية هي مبادىء من العقيدة ، هذه العجائب والغرائب وهذا الشذوذ العقلي والانحراف النفسي والدونية لم تعد حالات نادرة بل أصبحت حالات شائعة يتقبلها الناس وتستمتع بها العقول الملوثة خاصة إذا كان وراء هذا الشذوذ العقلي رمز ديني كبير أو شخصية ذات وجاهة اجتماعية ، فهنا تصبح الأمور شذوذ مقدسة وليست فقط شذوذ .
أقولها وهذه تجربتي وتجربة كل العقلاء في التأريخ ، مهما كثر أتباع هذه الممارسات الخاطئة فبالنهاية سيكون هؤلاء الأتباع الواهمين من الخاسرين النادمين ، هكذا علمتنا الحياة ، لأن الحياة لها قوانينها ولها موازينها ، منها إنها لا تسمح للخطأ أن يستمر للأبد ، ولو كان غير ذلك لما أستمرت الحياة ولا تطورت !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *