ثقافة الطعن وثقافة النقد :- كامل سلمان

هنالك بعض المدارس الفكرية في مجتمعاتنا تحث مريديها على الطعن والتنكيل بمن يخالفها الرأي وخاصة رموز الطرف المخالف ، والطعن يذهب بعيداً ليصل حتى الشرف والشكل واللون والنسب ويشمل كذلك الاتباع والمتعاطفين للطرف المخالف ، طبعاً مثل هذه المدارس الفكرية لا يمكن لها التعايش مع الاخرين بسلام الا بالتسلط او الخضوع فهي حالة الشذوذ الفكري . قد يكون المقصود من الطعن عند هذه المدارس الفكرية هو النقد لأنها لم تصل بعد الى معنى ثقافة النقد ، وكل ما توارثته من أدبيات الفكر هو الطعن فقط لإثبات أحقيتها ، وبما أنها لا تمتلك عناصر النقد فتجد ضالتها بالطعن والتنكيل . في المقابل نجد المدارس الفكرية الناضجة لها القدرة على النقد بأسلوب حضاري ولها القدرة على تقبل النقد ، تنقد لأجل الإصلاح وتتقبل النقد لتطور من أساليب عملها ، أي أنها ناضجة وتتطور لكن مثل هكذا مدارس فكرية راقية لاتنمو في واقعنا الدموي ، والنقد العلمي هو أرقى أنواع النقد ، لذلك أتخذته المجتمعات المتطورة منهج عمل في كل مجالات الحياة ، واستطاعت من خلالها دفع عجلة الحياة الى الأمام بفارق كبير عن المجتمعات الأخرى ، أما المدارس الفكرية الهزيلة فأنها ترفض النقد حتى وأن كان نقداً علمياً وتعتبره إظهاراً للعيوب وتجاوزاً على ما موجد في كينونتها و تركيبتها الفكرية بل تعتبره إعلان الحرب عليها ، هذه المفارقات الغريبة لا يخلو واقعنا الثقافي منها ، وربما تكون هي التي تطفو على السطح ، رواد ومثقفي هذه الأفكار هم الأغلبية . فلا غرابة ان تجد كاتباً او معلقاً يطعن ويلعن بالمخالفين فهو بالتأكيد من أتباع هذه المناهج ، نعم إنها ثقافة غريبة أن تطعن بشخص بكيانه وبشخصيته و بشرفه فقط لتبيان سوء ما قدم هذا الشخص أو هذه الفئة أو هذا التوجه الفكري ، وتأريخنا المعظم حافل بمثل هكذا سلوكيات وتتناقلها الأجيال بنجاح ساحق وبأفتخار .
أنا أتعجب عندما أسمع عن شخصية او جهة أساءت التصرف في التأريخ أو الزمن المعاصر لماذا لا نضع العيوب التي صاحبت سلوكياتها المنحرفة أمام القارىء ليطلع على مدى سوء هذه السلوكيات ويبقى التقييم للقارىء ، إذا كان الهدف هو إصلاح إجتماعي وتعديل الانحراف كي لا يتكرر مستقبلاً ، مالفائدة من الطعن غير تأجيج الكراهية والأحقاد وبالتالي ينعكس الطعن سلباً على سلوكيات الطاعن نفسه فيصبح الجهل والتخلف هو الذي يقود حياته وحياة الوسط الذي تعيش فيه هذه الافكار ، أليس هذا هو واقع الحال في مجتمعاتنا ؟ أليس هذا هو السر الخفي وراء تردي الأوضاع في مجتمعاتنا ؟ هؤلاء الذين أتخذوا الطعن وسيلة لبناء منظومتهم الفكرية عاجزين عن ان يغيروا من أنفسهم لأنهم مع أي تغيير تتلاشى مدارسهم الفكرية الهشة أصلاً والقائمة على الوهم والانتقام . نحن لا نريد ان نقارن بين الطعن والنقد لأن الطعن ليس له مكانة بين أرباب الفكر والثقافة حتى وأن كثر تابعيه ، حتى وأن فرض نفسه عند القطيع ، فهي ثقافة دخيلة تدل على واقع محزن تأسست عليها دول وكيانات مازالت لها حضور مظلم ، فالثقافة النقدية هي وحدها من تقرر وجه المجتمع وهي من تحرك عجلة الحياة وهي من تعطي للفكر قيمته وهي من تستطيع التلاقح مع الثقافات الحية للشعوب والمجتمعات الأخرى . لو كان فولتير ونتيشه وسارتر وهيغل وغيرهم من عمالقة الفكر من نتاجات واقعنا لذهب الطاعنون الى أخوات وأمهات وزوجات هؤلاء العظماء بأسوأ النعوت والالفاظ لعلهم ينالون من نتاجاتهم وعطاءاتهم حسب تقديراتهم . هذه هي الحقيقة التي لم نلتفت إليها في مدارسنا الفكرية التي تقودنا و نريدها ان تكون هي البديل الأصلح لقيادة البشرية . لا أدري أنحن مغفلون أم نحاول أن نستغفل أنفسنا أم أننا واثقون جداً من صواب هذه المناهج دون الاكتراث لما آلت اليه احوال مجتمعاتنا من تردي وضعف وضياع لأجيال كاملة .
تعالوا ننظر بالمرآة لنرى قباحة أنفسنا ، لنرى الى أين أوصلتنا هذه المدارس الفكرية التي تهيمن على مجتمعاتنا . هل سمعتم عن دولة في العالم تقطع الأنهار عن شعب كامل ولا تبالي لما يصيبه ؟ هل سمعتم عن دول في العالم متجاورة وتحمل نفس المعتقد ونفس الثقافة تحارب بعضها بعضاً وتنتهك الارض والعرض ؟ هل سمعتم عن دولة في العالم شعبها استهلاكي وغير إنتاجي ويدعي أنه يحمل ايدلوجية عظيمة ؟ هل سمعتم عن دولة في العالم فيها مئات الفضائيات الاعلامية تسب وتطعن بعضها بعضاً على مدار الساعة ؟ هذه كلها من بركات المذاهب الفكرية المتألقة في الطعن الأخلاقي . أنا هنا لا أبغي النقد لهذه المدارس الفكرية لأنني لست مجنوناً كي أتعرض للطعن والتنكيل ولكنني أستعرض الحقيقة وأضعها على الطاولة ليراها الجميع دون رتوش .
من العلامات المميزة لأصحاب ثقافة الطعن أنهم لا يستطيعون العيش بشكل طبيعي ومتوازن مع الأخرين ، فتراهم عدوانيين بشكل مفرط حتى يجبروا مخالفيهم النزول عند رغباتهم أو يكونوا هم أنفسهم أذلاء خانعين مستضعفين إذا فقدوا عوامل القوة والعنف ، فحياتهم ومسيرتهم مقسمة بين هذا وذاك ، ولكن مرحلة الأذلال والضعف تليق بهم و تعطيهم جمالية ومقبولية وتعاطفاً من لدن الناس فيجب ان لا يغادروها .