إعجاب حد الجنون :- كامل سلمان

عندما نسمع عن غرق قارب المهاجرين في وسط البحر يصيبنا الحزن الممزوج بالالم على فقدان الارواح البريئة ولكننا لا نعرف بأن هؤلاء المهاجرين المجازفين بحياتهم لقوا حتفهم غرقاً لأنهم ارادوا تحقيق شيء واحد في حياتهم هو ان ينالوا السعادة والحرية التي سمعوا عنها ولم يستذوقوها ، ماتوا ولم يشموا رائحتها ولكنهم عاشوا لحظات السعادة والحرية وهم بين امواج البحر ، هذا الإعجاب حد الجنون لحياة المجتمع الغربي الذي دفع الناس بأن تجازف بأرواحها لأجل الوصول اليها لم يأتي من فراغ وإنما أتى بسبب الحرمان والاضطهاد الذي عانوه في بلدانهم هؤلاء المساكين .
الإنسان لا يعجب بشيء حد الجنون إلا وهو يعاني من نقص كبير حد الجنون ، الزائر للدول الاوربية وامريكا وكندا واستراليا تصدمه الشوارع النظيفة والبنايات الجميلة والحياة المنظمة والناس الذين يحترمون القانون ولا يتدخلون بشؤون بعضهم بعضا و تبهره التعاملات الاخلاقية الإنسانية الراقية في المستشفيات والاسواق والدوائر والمطارات ، لماذا تصدمه كل هذه الأشياء ؟ لأنه. محروم منها في بلده ، محروم من التعامل الاخلاقي ، محروم من نظافة الشوارع ، محروم من وجود القانون ، محروم من نظافة الأخلاق ومحروم من اشياء كثيرة ، لذلك يصاب بالصدمة والالم ، بينما ترى الشخص القادم من مجتمعات ايضاً متطورة لزيارة هذه البلدان الراقية لا ينبهر ولا يصاب بالصدمة لأن ما موجود في الدول الغربية يجده في بلده او قريب منه ان لم يكن بنفس الشاكلة . . . الشكل الأخر من أشكال الإعجاب حد الجنون ، عندما يتأثر نفس هذا الإنسان المحروم من جمالية الحياة وجمالية القانون يتأثر بشخصية او برمز تأريخي أو معاصر ، يتأثر بكلماته ، يتأثر بخطبه ، يتأثر بما يقال عنه من إطراء ومديح فوق الصفة البشرية ، يتأثر ويصل تأثيره حد الجنون فيصبح عبداً طائعاً لا حول ولاقوة له سوى تلبية النداء الذي يصدر من هذا الرمز او من وكيله او من ادعى إنه يمثله او من سار على خطاه ، يتأثر لأنه محروم من الثقافة ، محروم من المعرفة ، فعندما فتح عينيه على الدنيا وجد هذا الرمز او ذاك أمامه فأتخذه إله ، ولكن إذا دخل هذا الإنسان المسكين عالم الثقافة والمعرفة وعالم الوعي وعالم تفعيل العقل سوف تقل تدريجياً درجة الإعجاب بهذا الرمز وقد تصل الى العكس أي ان الإعجاب يتحول الى استهزاء خاصة بعد ان يكتشف ومن خلال المعرفة بأن هذا الرمز الذي كان يقدسه لا يعدو كونه إنساناً تافهاً وكل ما أحيط به من هالة أعلامية هو كذب وافتراء ، وأن العظماء الحقيقيين هم هؤلاء الذين نقلوا الإنسان من الحياة البدائية الى الحياة الإنسانية وليست هذه الرموز الدموية ، نعم بهذا الشكل يجب ان نرسم الواقع . ماكان للناس ان ينبهروا بحياة الغرب لو كانت حياتهم صحيحة ، ما كان للناس ان ينبهروا بشخصيات فاشلة لو كانت عقولهم متفتحة ، ما كان لهم ان يصبحوا مطايا للأفكار المريضة لو توفرت لهم سبل المعرفة . فهم ضحايا فأما أن يموتوا في أعالي البحار أو أن يموتوا تحت ظلم الواقع .
قد يكون الإعجاب حد الجنون بالعواطف مثل الحب والعشق للحبيب أو للصوت الجميل أو للإمكانيات لبعض أصحاب الملكات الخارقة ، وهذه امور قابلة للإشباع فتصبح امور طبيعية بمرور الزمن ، أما غيرها فهو نقص وخذلان وتخلف .
لا يوجد في المجتمعات المتقدمة ظاهرة الإعجاب حد الجنون إلا فيما ندر ، ظاهرة الإعجاب بأشخاص حد الجنون هذه في مجتمعاتنا أصبحت فرض عيني ، فأن حاول أحدنا مقاومتها فالمجتمع كفيل بأن يلبسه إياها عنوة أو أن يصبح منبوذاً ، لذلك تجد الواعي والمثقف في مجتمعاتنا مهموم منزوي منعزل كئيب ، لأنه في داخله عالم من الحرية التي لا تستسلم للمجتمع وسلوك المجتمع وأفكار المجتمع ، وكل إعجابه حد الجنون يذهب الى الذين تحرروا من قيود الواقع وبنوا لأنفسهم كيان مستقل .