هوية وتاريخ مدينة إيمار (مسكنه) – الحلقة الثانية –    بيار روباري

 

Nasname û dîroka bajarê Îmar (Meskene)

دراسة تاريخية

ثانيآ، جغرافية مدينة إيمار:

Erdnîgeriya bajarê Îmarê

تقع مدينة “إيمار” الأثرية على بعد حوالي (1,5) واحد ونصف كيلومتر من الضفة الغربية لنهر الفرات، في نقطة محورية وهي إنعطاف النهر نحو الشرق، بالقرب من الطريق العام الذي يربط بين مدينتي هلچ

(حلب) ودرزور. وتتربع فوق سهل كلسي يحدها من الجهة الغربية للنهر، ويأخذ الموقع شكل مستطيل يحده من الشمال والشرق مجرى نهر الفرات، ومن الجنوب وادٍ طبيعي يجري بمحاذاة الموقع لينتهي في الفرات. تتركز البقايا الأثرية لإيمار ضمن الجزء الغربي من الموقع الذي غمره مياه الفرات، بينما يشغل الجزء الشرقي حالياً موقع “بارباليسوس”.

وهذا الموقع الفريد والإستثنائي هو جزء من هضبة متقطعة بواسطة مجرى سيل مائي شديد عند حوافر الهضبة المطلة على ضفهة النهر الملامسة لها. ولهذا قال عنها العالم الفرنسي الجيمورفولوجي سانلافيل

بول: “أنها تبدو كتلة صناعية مستقلة”، ولكنها في الواقع تلة طبيعية من صنع الطبيعة وهي مدهشة حقآ.

ولهذه التلة رأسين واحد في الشمال الغربي وأخر في الجنوب الغربي، وبين الرأسين يقع سهل ضخم أو ما يشبه وادي، وإستخرج سكان إيمار الخوريين الحجارة منه وإستخدموها في بناء مدينتهم على ضفة نهر الفرات الخالد، وبلغت مساحة المدينة حوالي (700.000) متر مربع.

 

وبسبب موقعها الجغرافي والمائي المهم الذي يربط بين شرق الفرات وغربه، جعل منها ملتقى القوافل القادمة من الشرق ومتجهه نحو حلب ودمشق وساحل البحر المتوسط، والقوافل القادمة من الغرب نحو الشرق بإتجاه مدن الجزيره الفراتية مثل: گوزانا، هموكاران، سيكاني، سريه كانية، أوركيش، ميرا، رقه

ودرزور وباخاز وإنتهاءً بمدينة أورك السومرية الكردية بجنوب كردستان. ومن الجهة الأخرى كانت ملتقى القوافل التجارية القادمة من البادية أي الجنوب والذاهبة نحو مدن الشمال والغرب كمدينة: مبوگ، گرگاميش، باب، أرپاد، أزاز، ألالاخ، پاتين وشمأل. هذا فضلآ عن كونها كانت مرفآ مهمآ تعبر من خلاله السفن القادمة من گرگاميش في الشمال ومتجهة نحو جنوب كردستان مرورآ بالعديد من المدن الخورية الفراتية المهمة مثل: ميرا، رقه، درزور، باخاز. والعكس صحيح، أي أنها كانت مرفآ للسفن التجارية المبحرة في الإتجاهين الشمالي والجنوبي، ومن هنا جاء أهميتها البالغة الحساسية.

اليوم إيمار الأثرية والتي حل مكانها مدينة مسكنه، هي ناحية ومن حيث التقسيم الإداري تتبع مدينة إلى مدينة “مبوگ” أي منبج التابعة لمحافظ حلب والتي تبعد عنها حوالي 100 كيلومتر وتضم حوالي (44) قرية و(42) مزرعة. ويبلغ مساحة ناحية إيمار (مسكنه) حوالي (506.27) كم². ووصل عدد سكانها حوالي (75.000) ألف نسمة حسب إحصائيات عام 2021. أما تعداد سكان المدينة نفسها فبلغ تعدادهم حوالي (20.000) عشرين ألف نسمة بحسب إحصائيات العام 2021.

بلدات وقرى ناحية إيمار:

قبل ذكر وسرد أسماء القرى والبلدات والمزارع التابع لمدينة “إيمار”، لا بد أن أذكر أن 99% من هذه الأسماء معربة وليست أسمائها الأصلية، ونحن بحاجة للقيام بدراسة تاريخية للتحقيق في هذه الأسماء. وحتى إسم المدينة الحالي (مسكنه) إسم معرب أطلقه عليها التتار (الأتراك)، والأن إليكم أسماء القرى وهي:

الأندلس، العزيزية، البعث، بابيري (بابيري تحتاني)، ردة كبيرة، الحمرة، الحرية، الجلاء، جب الحمام جتالة، الكرامة، خان الشعر، خربة صليب، مدينة الغار، المفتاحية، مجمع حطين، النعيمية، قواص، رجم الأقرع، رأس العين البومانع، رسم البوخر، سموقة، الشهداء، السكرية، جنوب جديعة، تل توتون، الفرج وتشرين، الزاهرة، التضامن، الشهابي، المخروم، النموذجية، بير سالم، تل العبر، ملاح، جنوب مسطاحة المخروم، وضحة.

ومع إنشاء سد الفرات عام (1968) عند بلدة الطبقة، شكل ذلك نقطة تحول في حياة ومصير مدينة إيمار حيث غُمرت المنطقة بالمياه التي شكلت بحيرة السد، ما بات يعرف لاحقاً بـ (الغمر)، واضطر قاطنوها إلى مغادرة منازلهم قاصدين مدن وبلدات مجاورة وبعيدة مثل: قرية مسكنه، ريف حلب، رقة، هسكه).

وقرية مسكنه تقع على بعد نحو (30) كيلومتر غرب “إيمار” التي غمرت بالمياه وتوحلت هذه القرية الوضيعة إلى مدينة صغيرة نتيجة لجوء سكان إيمار إليها والإستقرار فيها.

لكن بفضل جهد وعمل علماء الأثار الفرنسيين وحرصهم الشديد، تم إنقاذ أثار مدينة إيمار قبل أن يغمرها مياه البحيرة الإصطناعية التي أنشأت لمد سد الفرات بالمياه على مدار الساعة، حيث أوقفوا تنقيباتهم في مدينة “ميرا” وغيرها من المواقع الأثرية في المنطقة، وإنكبوا على العمل في موقع مدينة “إيمار” الأثرية لإنقاذ أثارها، وعمليآ دخلوا في سباق مع الزمن، حيث كانت الحفريات تجري على قدم الوثاق في إنشاء البحيرة وتوسيع رقعتها لتستوعب أكبر كمية من المياه، وبالفعل تمكن الفريق من إنقاذ أهم أثار المدينة بعد بذل جهد غير طبيعي، والتي مكنتنا من التعرف على تاريخ هذه المدينة الخورية العريقة، وبذلك حفظ هؤلاء العلماء هذا الإرث الإنساني للأجيال القادمة، ويشكرون على ما بذلوه من جهد وطاقة، ولولاهم لضاعت تلك لأثار في مياه البحيرة العملاقة، لأن نظام البعث العنصري والنظام الأسدي الطائفي، أخر همهم كان الحفاظ على الأثار الخورية – الكردية.

المنطقة الشرقية لمدينة هلچ (حلب) بعكس المنطقة الغربية الشمالية الجبلية (جبل الكرد)، منطقة هضبية وسهلية وتمتدة من حلب حتى تخوم البادية وأطراف سهول الفرات عند مدينة “إيمار” أي بلدة مسكنة الحالية، والتي تضم كلاً من هضبة حلب الكلسية وهضبتي الحص وشبيت البازلتية، والوهدات المنخفضة السهبية التي تلامس أطراف البادية، فتتوسطها سباخ (المطخ والحرايج ومراغة ومملحة الجبول)، وقد تقلصت مساحاتها فهبط إنتاج المملحة إلى الربع تقريباً، وجف بعض السباخ وتحول إلى أراضٍ زراعية ورعوية.

وتُعرف هذه المنطقة الهضابية، بصلاح تربتها لزراعة الحبوب مثل القمح، الشعير، البقليات، الذرة، القطن والشوندر، ونتيجة لسيادة المناخ المتوسطي المعتدل الدافئ على معظم أجزائه، وبسبب الفروق في كميات الأمطار ودرجات الحرارة الفصلية بين أطرافها الشمالية والجنوبية، وتنوع التربة فيها واختلاف

غناها، وتأثير كل ذلك على شكل إستثمار الأرض وزراعتها. وهذه المنطقة تشمل شرق حلب ومنطقة مبوگ (منبج) والباب، وتمتد حتى أطراف البادية. فهي شبه جافة ومعدل أمطارها ما دون (350مم) في السنة، وأحيانآ تنخفض حتى (200مم)، وتربتها صفراء فقيرة، فيفرض البور نفسه كل عامين تقريباً، ويصبح السقي ضرورياً لنجاح المزروعات الصيفية كالقطن والأشجار المثمرة والخضار، وتلبي مياه سد الفرات حاجة مساحات واسعة من هذا الجزء لمياه السقي.

أخيراً يخترق وادي الفرات الأطراف الشمالية من أراضي المنطقة، بدءاً من گرگاميش (جرابلس) حتى إيمار (مسكنة) بمسافة (65) كم. ويختلف عرض هذا الوادي وما يحويه من سهول لحقية، فبينما يكون على شكل خانق كما في موقع يوسف باشا، يتوسع في أماكن أخرى، وتتسع سهوله الجانبية الصالحة لزراعة الحبوب بشكل عام والأشجار المثمرة والخضار عندما تتوافر مياه السقي للعالي منها، كما هو الحال مع حوض غربي مسكنة الذي وصل إستجرار مياه الفرات للسقي فيه حتى أطراف مملحة الجبول.

والمنطقة بشكل عام تعاني من قلة المياه الجارية والينابيع الدائمة، ولهذا أهل مدينة المسكنه وما حولها إعتمادهم على مياه نهر الفرات شبه كلي، سواءً تعلق الأمر بمياه الشرب أو سقاية مزروعاتهم.

ثالثآ، أثار مدينة إيمار:

Kevneşopên bajarê Îmar

في مطلع قرن العشرين (1901- 2000) قام الباحثان الألمانيان “أرنست هرتزفيلد وفريدريك سار”، أول مرة بجولة في حوض الفرات ودجلة، ولم يخرجا بنتيجة لربما بسبب ضيق الوقت، وعدم التركيز على منطقة واحدة، وعدم إمتلاكهم أجهزة مسح متطورة قادرة على كشف الأثار المطمورة. وفي العام

(1929-1931) بدأت بعثة أثرية فرنسية برئاسة العالم “جورج سال وأوستاش دو لوري” ببعض العمل والبحث في موقع المدينة وإجراء أول سبر في موقع بلدة مسكنه لفترة قصيرة بهدف التعرف على طبيعة المكان، وخلال هذه الفترة عثروا على رقيم مسماري في الجهة الغربية من موقع المدينة، وهذا ما لفت إنتباه الباحثين وعلماء الأثار والإهتمام بالموقع.

ووبسبب هذا الرقيم المسماري الذي عثر عليه في الموقع، تم تشكيل بعثة لإجراء أسبار برئاسة الباحث “مارغرون” وأربعة أعضاء آخرين، عملوا في الموقع (4) أربعة أيام تمكن الفريق من خلالها القيام بعدة أسبار، وحينها تم العثور على جرة فخارية إحتوت في داخلها على (14) رقيماً مسمارياً مكتوبة باللغة الأكدية، لغة ذاك الوقت ووجدت الجرة موضوعة ضمن أحد جدران مباني المدينة، وهذا الاكتشاف أكد وجود مدينة “إيمار” في هذه المنطقة، التي كانت قد ذكرت ضمن النصوص، التي عثر عليها في مدينة (ميرا وإيبلا)، والتي يعود تاريخها إلى المرحلة الأخيرة من العصر البرونزي الحديث (1300) قبل الميلاد.

بقيا موقع مدينة “إيمار” مجهولآ إلى حين بدء حملة إنقاذ آثار الفرات، وعلى ضوء ذلك تشكلت بعثة من المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق في عام (1971) ميلادي، بمبادرة من العالم “أندريه ريموند” وقامت البعثة بالتنقيب في المكان وإستمرت في العمل حتى العام (1976) ميلادي. وعثرت في هذه الفترة بعض اللقى التي جمعوها مع كسر فخارية وأجزاء من ألواح طينية تحمل نصوصاً مسمارية تعود تاريخها إلى عصر البرونز الحديث قد إكتشفتها أيضآ في الموقع.

في المواسم التي تلت خلال الأعوام (1973-1976) عثر العلماء عرضآ على موقع قلعة (إشتاتا) والتي عرب العربان إسمها إلى (تل فعقوس)، التي تبعد عن مدينة إيمار حوالي (11) إحدى عشر كيلومتر إلى الجنوب الشرقي، والهدف من بنائها كان حصنآ دفاعيآ عن مدينة “إيمار”. وكانت قلعة (إشتاتا) تمثل الحدود الشرقية للدولة الهيتية، وحسب رأي العلماء الذين نقبوا في موقع المدينة أن الذين بنوا القلعة هم الملكين الهيتيين “تشوبيليوما” وخليفته “مورشليس الثاني” في (1400) القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

ودلت نتائج التنقيبات البعثة الفرنسية في الموقع أن مدينة إيمار الحديثة يعود تاريخها نشؤها إلى العصر البرونزي الحديث (1600-1200) قبل الميلاد، وبنيت على مصاطب ومدرجات صخرية تطل على نهر الفرات. بينما يعود تاريخ مدينة إيمار المتوسطة إلى (2100-1600) ميلادي، بينما يعود تاريخ المدينة

الأولى والأقدم إلى (3100-2100) قبل الميلاد.

وفي مطلع التسعينات من القرن الماضي، تابعت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية التنقيب في الموقع وتحديدآ في عام (1991) ميلادي، ومع إستمرار الباحثين السوريين بالعمل في الموقع لمواسم عدة إستطاعات البعثة الوصول إلى سوية العصر البرونزي القديم في الطبقة الرابعة، وبعد ذلك تم تشكيل بعثة (سورية – ألمانية) مشتركة، وتابعت أعمال التنقيب ووسعت من رقعة التنقيب وتعميقها في منطقة كان الأثريون السوريون قد بدؤوا العمل فيها، ليتم الكشف عن بقايا معمارية وأوانٍ فخارية كاملة وغيرها من اللقى، التي تعود إلى العصر البرونزي القديم وتم إكتشافها في الطبقة الرابعة.

لقد أشار الباحثين الفرنسيين العاملين في الموقع في دراساتهم وتقاريرهم، أن تلة المدينة تم إنشائها من قبل أهلها وإرتفعوا بمستواها بعد أن قاموا بتسويات عديدة حتى وصلوا بإرتفاعها إلى نحو (280) متر، وأعلى قمة في التلة بلغ إرتفاعها نحو (326) متر، كي يتمكنوا من الدفاع عنها في حال تعرضها لأي غزو خارجي.

 

أولآ- مخطط المدينة:

كما ذكرنا سابقآ، إن مدينة “إيمار” بنيت على الضفة العلية لنهر الفرات، من مادة الحجر على صيغة مدرجات، وكما إحتوت المدينة على شبكة شوارع منظمة ومتعامدة، ويذكر الملك الهيتي “مورشيلي الثاني” الذي عاش في الفترة بين (1338- 1290) قبل الميلاد، شهد أعمال بناء المدينة خلال السيطرة الهيتية، وفي فترة لاحقة حوت المدينة على حصن عسكري هيتي، وكانت المدينة محاطة بمنحدر صخري طبيعي من ثلاث جهات، ومن الجهة الرابعة تم حفر خندق يصل عمقه إلى (25) متر، وعرضه (30) مترآ، وعلى إمتداد مئات الأمتار من الطول لتحصين المدينة وحمايتها من أي غزو خارجي.

وقد رافق إعادة بناء المدينة الجديدة، أعمال تنظيم وتحصين كبيرة، إذ قام البناؤون بإعادة تنظيم سطح الكتلة الصخرية ثم تشذيبها وترميمها، وبعد ذلك بنيت المدينة وفق مخطط مدروس وعلى شكل مدرجات ثم شُيد المعبد المخصص للإلهة “إنانا” و”هدد” في القسم الجنوب الشرقي من المدينة، وبنيت أيضاً داخل المدينة بعض المعابد على شكل سطوح متتالية لتشكل نوعاً من المدرج الكبير أمام الوادي.

وعثر الباحثين المنقبين في الموقع على معبدين كبيرين وقصر من طراز (بيت الهيلني) في المدينة العليا، وجدران أحد المعبدين كانت مزينة بالآجر المعروف في مدينة “نوزي” في جنوب كردستان القريبة من مدينة كركوك الكردية. أما بيوت السكن فقد كانت متشابهة التخطيط، حيث إحتوت على ثلاث غرف سفلية ودرج يؤدي إلى طابق ثاني للتنقل إلى بيوت الجيران. وتأكدت هوية الموقع عندما عثر العلماء على ألواح طينية ضمن جرة مختومة مدفونة ضمن جدار قصر الملك حاكم المدينة المبني على الطراز الهيلني، وكان ذلك في عام (1973) وعندها تمكن العلماء من فهم نظام الطوابق لمدينة نظمت على درجات، نزولاً من أعلى نقطة (معبد هدد) إلى الميناء في الأسفل. وهي تكاد تكون فريدة في تخطيطها من المدن الخورية – السومرية – الميتانية – الهيتية – الكردية.

وإكتشف العلماء طبقتين في تلة المدينة واحدة تعود لمرحلة الإحتلال البيزنطي الهمجي لبلاد الخوريين أسلاف الشعب الكردي، والثانية تعود لمرحلة الإحتلال العربي الإسلامي الإستيطاني السرطاني. وقبل الدخول في تفاصيل أثار المدينة، لا بد من التنويه بأن موقع مدينة “إيمار” التاريخية تغير أكثر من مرة وذلك بسبب تغير مجرى نهر الفرات، بمعنى إبتعاده عن المدينة الأساسية والتي يعود تاريخها إلى (3100) قبل الميلاد. أي أن الخوريين من سكان المدينة إضطروا للحاق بالنهر فإنتقلوا من الموقع الأول

للثاني الجديد، الهدف من ذلك هو تأمين مياه الشرب وبناء مرفأ على ضفاف النهر، بهدف التجارة مع مدن الشمال والشرق على حدٍ سواء. ولكي لا يشطح الخيال بالبعض كثيرآ فإن المسافة بين تلك المواقع لم تتعدى كيلومترات قيليلة فقط.

لقد أدت أعمال التنقيب التي تمت في الموقع على يد بعثات التنقيب المختلفة، كشفت عن الكثير من الأثار المهمة والمعالم المعمارية للمدينة الأثرية مثل: المساكن، القصر، المعابد، المدافن، الساحات، وغيرها من البقايا الأثرية الهامة للمدنية، لا سيما النصوص المسمارية التي ألقت الضوء على النواحي المختلفة من حياة المدينة. وكما تم إكتشاف العديد من الأعمال الفنية والمنحوتات والتماثيل الطينية وصناديق الفخار ونقوش في الموقع. إلا أن عمليات التنقيب لم تشمل كامل مساحة المدينة بسبب إجتياح مياه بحيرة الفرات أجزاء من المدينة قبل الإنتهاء من أعمال البحث والتنقيب. وتبين من التنقيبات أن شكل المدينة مستطيل وهذه المكتشفات قدمت لنا معلومات هامة عن تخطيط المدينة وتنظيمها وسنتحدث عن بعض هذه المعالم بشيئ من التفصيل.

ثانيآ- البيوت:

على أثر عمليات التنقيب لمواسم عدة، تمكن علماء الأثار من إكتشاف عدد من البيوت وصل عددها إلى أكثر من (30) بيتآ بجوار بعضها البعض وكل مجموعة من البيوت مشكلة حي بحاله. وهذه البيوت ذات طابع خوري المعمار حيث بنيت على الطراز الهليني. ويتألف المنزل الواحد من غرفة مستطيلة كبيرة

وتطل على الخارج من خلال بوابة كبيرة، ويعتقد أنها كانت غرفة المعيشة والمنام في أن واحد، ويتفرع منها حجرتين صغيرتين يدخل إليهما من الحجرة الكبيرة، وفي بعض الدور – البيوت وجد الباحثين غرفة إضافية ثالثة، ويعتقد العلماء يعود ذلك إلى كبر عدد أفراد العائلة وإمكانياتها المادية. كما وعثر في هذه البيوت على الأواني الفخارية والحجرية، وبعض اللقى المعدنية التي كان تستخدم من قبل سكان المدينة من الخوريين.

وقد عثر المنقبين على وحدات سكنية متوسطة، كل واحدة منها تضم عدة غرف، جميعها تطل على الحجرة الرئيسة، وبعض الوحدات السكنية الأخرى لها غرف تطل على الشارع الرئيسي، الذي كان مبلطاً، وهذه الوحدات تضم غرفاً كبيرة مقاييسها (4×7) متر، و(4×8) متر. وبعض الوحدات السكنية كانت تملك حوش مسور، وعند أسفل الأدراج عثر المنقبون على خوابي فخارية كبيرة، كما وعثروا

على التنانير والمواقد المحفورة في أرضية الحوش، كما، وعثر المنقبون على بناء ضخم فيه حجر بطول (10) أمتار، وعرض (5,4) متر، وهذا البيت هو نموذج للبيت “الهيلاني” الخوري – الهيتي. إضافة لذلك وجد في بعضها بقايا السيراميك المدهون والمصنوع من عجينة الزجاج. ولاحظ الباحثين أن الغرف الكبيرة لم تكن مفتوحة السقف بل كانت مغلقة السقوف، وهذا يؤكد الصلة الوثيقة بين سكان هذه المدينة ببقية المدن الخورية الواقعة إلى الشرق منها ضمن الجزيره الفراتية مثل مدينة: أوركيش، گوزانا، سريه كانية، رقه، سيكاني، هسكه، درزور، والمناطق الغربية لنهر الفرات مثل مدن: مبوگ، باب، ألالاخ، پاتين، أگاريت، گرگاميش، رستن، شمأل وخاتوشا.

الإختلاف الوحيد بين بيوت مدينة “إيمار” وبيوت بقية المدن الخورية – الميتانية – الهيتية الكردية، هو أنها بنيت على شكل مصاطب من خلال تسوية الجروف الصخرية المطلة على النهر ومدرجات تعلوها المنازل بحيث تكون الأسطح متصلة مع بعضها البعض لتسهيل عملية التنقل بين البيوت عبر الأسطح، وهذا يعود لطبيعة وجغرافية الجرف الذي بني عليه المدينة. وجرى الفصل بين كل مجموعة من المنازل والمجموعة الأخرى، بالشوارع أو الطرق المنحدرة، التي بدورها قسمت المدينة لأحياء أو مجموعات سكنية متعددة، وهذا ما سهل حركة الناس والدواب في المدينة من التجوال فيها.

ثالثآ، القصر الملكي:

بني القصر الملكي في منطقة مرتفعة من تلة المدينة في الجهة الشمالية الغربية منها، والمطلة على الوادي المحاذي للتلة في القطاع (أ)، حسب تقسيم التنقيبي الذي وضعه العلماء للموقع، وفق المخطط المعروف وهو البيت “الهليني”، أي البيت العالي، المؤلف من قاعة مركزية مستطيلة وهي بمثابة قاعة العرش يتقدمها رواق، ومدخلها في منتصف ضلعها الطويل ويحمل سقفها الأعمدة، وهذا الجزء هو الجناح الرسمي من القصر ،والطابق العلوي من القصر كان مخصصآ لسكن الملك وعائلته. إلى جانب ذلك هناك عدة أبنية ملحقة بالقصر مخصصة لخدمة القصر وسكانها سواءً كانت العائلة الملكية وحاشية

الملك والعاملين فيه من موظفين وإداريين وزوار. وتتوزع هذه الأبنية الخدمية على المنحدر الذي يقع

خلف الجناح الرسمي من القصر الملكي. وضمن هذا القطاع نفسه تم إكتشاف الجرة الفخارية التي وجد في داخلها العالم الفرنسي “أرنو” النصوص المسمارية المهمة، وهي متنوعة منها دينية ومنها إدارية وإخرى إقتصادية.

وهذا القصر هو ذات النموذج الذي بُنيت وفقه معظم القصور الخورية والميتانية والهيتية. وكلمة (هلتار) في اللغة الخورية تعني “الدارة المستطيلة”. وهو الشكل المعماري الذي شاع في كافة أرجاء بلاد الكرد – الخوريين أي كردستان منذ منتصف الألف الثاني (1500) قبل الميلاد، وإستمر العمل بهذا النموذج حتى

نهاية (700) القرن السابع قبل الميلاد، وجرى اشتقاق المصطلح (الهليني) من الكلمة الهيتية (هلتار) والتي تعني مبنى أو دارة.

وقد ظهر أول بيت “هليني” في القرن (1600) السادس عشر قبل الميلاد، في قصور ملوك الهيتيين في گرگاميش وألالاخ الكرديتين، وجميع الباحثين من حول العالم أقروا، بأن البيت الهليني هو إبتكار خوري خالص. وفي الفترة الهيتية المتأخرة، أصبح النمط الهليني في العمارة واسع الإنتشار، كشكل من أشكال الهندسة المعمارية في جميع مناطق غرب كردستان، وشمال غرب كردستان أي (الأناضول). وفي مدينة “گوزانا” شرقي نهر الفرات بدأوا ببناء هذا الشكل المعماري منذ (900) القرن التاسع قبل الميلاد. بينما في دور (خاتليمو) بدأوا بهذا النموذج منذ (700) القرن السابع قبل الميلاد، وخاتليمو مدينة أثرية تقع في محافظة “درزور”، وتعرف اليوم بي (تل الشيخ حمد) وتبعد عن مدينة درزور مسافة (70) كم، وتقع المدينة على الضفة الشرقية لنهر الخابور، عرف الاسم القديم للموقع من خلال الرقم المسمارية لهذه التلة. وملوك آشور بدورهم أخذوا عن هذ النمط المعماري الخوري وبنوا قصورآ على شاكلته وليس هذا وحسب، بل حتى الكنعانيين أخذوا عنه وبنوا قصور وأبنية على هذا الطراز، ويمكنكم رؤيتها لليوم فيما تسمى بفلسطين وإسرائيل.

رابعآ- المعابد:

في القطاع (إيه) من الموقع الذي يقع في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة، ويمكن تسميته بالحي الديني نظرآ لوجود أربعة معابد فيه. في هذا القطاع عثر العلماء على شارع عريض إتجاهه شرق – غرب، إضافة إلى معبدين يتراوح طول الواحد منهما بين (12-14) مترآ، وعرضهما يتراوحان بين (6 -7) أمتار. وكل معبد من هذين المعبدين محاط بجدار تصل سماكته حوالي (2,30) متر. ولكل منهما باب من الجدار الشرقي وفي الجهة الغربية لها مصاطب ومطالع أدراج. من جهة ثانية أكد الباحثين في موقع المدينة بأنهما يخصان الإلهة “إنانا” السومرية – الكردية، التي عرب العرب إسمها إلى (عشتار). وفي محور الباب لكل معبد من هذين المعبدين، يقوم مذبح معقد البناء، ومزود بعدة درجات صعود تنتهي بالمصطبة الواطئة.

وعثر العلماء داخل هذين المعبدين على رقم مسمارية، ولقى من البرونز مثل تمثال من البرونز لإله غير معروف، وتمثال آخر من البرونز لثور ضخم، ورؤوس سهام، ومجموعة من الخرز البلوري، وقطع من

العاج. ولاحظ العلماء وجود طبقة سميكة من الرماد، مما يشير إلى حدوث حريق كبير فيهما مما أدى إلى تدمير المعبدين وزخارفهما، ولم يترك إلا النزر اليسير.

ويتألف مخطط المعبد من قاعة كبيرة مستطيلة الشكل، يتقدمها بوابة مجهزة بأعمدة على الجوانب، وفي مقابلها نجد المذبح المجهز بعدة درجات وأمامه مصطبة منخفضة، فيما تتوضع ضمن الجدار الشرقي للمعبد ثلاث حجرات صغيرة متتالية. هذا وقد عثر العلماء في أرضية المعبدين على عدد من الرقم الطينية، التي كشفت لنا أن المعبدين كانا مخصصآ للإلهة “إنانا” والإله العاصفة “تشوب والإله هدد”. ومن خلال العثور على وثائق المتنوعة الدينية والتي تتضمن العديد من التراتيل، أساطير، عرفنا أسماء بعض الألهة والطقوس العبادي، هذا إضافة لكشف وثائق إدارية وإقتصادية ومحفوظات لغوية، ذكرت أسماء أعلام وأماكن وكلها مكتوبة بالأبجدية المسمارية، ولكن باللغة الأكدية.

إن أغلب اللقى والبقايا المعمارية، بإستثناء الفترات المتأخرة الرومانية – البيزنطية، والعربية الإسلامية، تعود إلى (1300) القرن الثالث عشر قبل الميلاد وما قبل. وفي حوالي العام (1187) قبل الميلاد دمرت شعوب البحر المدينة بشكل شبه كامل، ولم تقم لها قائمة حتى عام (187) قبل الميلاد، حيث تكونت مدينة تعود للفترة السابقة على فترة الإحتلال العربي الإسلامي، وهذه المدينة مغيبة أسفل أطلال مدينة “بالس” التي شيدت في عصر المحتلين العرب المسلمين. ويشاهد اليوم من أطلال مدينة “بالس” مأذنة مسجد يعود تاريخها إلى الفترة الأيوبية.

وهذين المعبدين لا يختلفان عن بقية المعابد في بقية المدن الخورية سواء في منطقة الجزيره الفراتية أو تلك الواقعة في المنطقة الغربية لنهر الفرات وصولآ إلى شواطئ البحر المتوسط، والتي يعود تاريخها إلى ما قبل الألف الخامس والسادس ونزولآ للألف الأول قبل الميلاد.

وهذين المعبدين هم الأكبر في مدينة إيمار والأهم نظرآ لحجمهما وموقعهما، ولم تعرف المدينة التعصب الديني وذلك لسببين هما:

الأول: الديانة اليزدانية ليست ديانة تبشيرية، ومن هنا وجدنا أن الخوريين أسلاف الشعب الكردي لم يعرفوا التعصب الديني، ويمكن ملاحظة ذلك في جميع المدن الخورية وفي كردستان لليوم. الشعب الكردي في عمومه جد متسامح من الناحية الدينية ولا يعرف الغلو والتطرف.

الثاني: في الماضي البعيد وتحديدآ قبل ظهور الديانات الشمولية (التبشيرية) الثلاثة اليهودية والمسيحية

والإسلام وهي نسخ مكررة عن بعضها البعض، لم تعرف البشرية الحروب الدينية. حيث كل قوم كان له ألهته وعباداته وطقوسه الدينية، وكانوا يحترمون ألهة ومعتقدات بعضهم البعض.

وأثناء التنقيبات التي جرت بين الأعوام (1974- 1976) تم إكتشاف معبد ثالث في نفس حي المعبدين، ولا يختلف من حيث البناء عن المعابد الأخرى، لكن يبدوا أنه كان مركزآ لنشاط فكري ديني خاص بأحد

الكهنة المهمين من ذوي الحذوة لدى ملوك الهيتيين بناة المدينة الحديثة. وهذا بدا واضحآ من المكتبة التي

إكتشفت في داخل هذا المعبد اليزداني. والمكتبة ضمت العديد من المعاجم والتنبئوات والنصوص الدينية

كتبت أكثريتها بالسومرية والخورية، وكلتيهما هما إم اللغة الكردية الحالية، وهذا أمر طبيعي لوجود معبد للإلهة “إنانا” السومرية. وهذا يدل على وحدة الشعب الخوري بدءً من: سومر، أوگاريت، رستن، دلبين، قطنا، مبوگ، هلچ، ألالاخ، پاتين، شمأل، وخاتوشا مرورآ بگوزانا، أوركيش، هموكاران، باخاز، نوزي وأوروك. وهناكل بعض النصوص مدونة باللغة الأكدية كونها كانت اللغة الرسمية المتداولة بين الدول والممالك في ذاك العصر كما هو الحال اليوم مع اللغة الإنكليزية. ولتأكيد ذلك يكفي شرح معنى تسمية مدينة أوروك السومرية. التي عربها العرب إلى لفظة (العراق) ولاحقآ أطلقوه على إسم هذا الكيان اللقيط الحالي. إن تسمية “أوروك” مؤلفة من مفرديتين: الأولى (أو) وتعني هذا/ هذه، والثانية (روك) وتعنى الشمس. ومعنى التسمية كلها تعني “هذه الشمس”، والمقصود بذلك هو معبد الشمس.

Ew + rok —–>  Ewrok

++++++++++

الإلهة إنانا (أشتار):

هي إلهة الحب والجمال، الحرب والتضحية وهي إلهة سومرية – كردية، أطلق عليها العرب تسمية عشتار، واليونانيين أفروديت في اليونان القديمة، والرومان فينوس. وهي بنة الإله سين إله القمر. وأمها الإلهة ننكال، وأخوها الإله (أوتو) إله الشمس، وأختها الإلهة (ارشكيگال) إلهة العالم السفلي أي عالم الأموات. وكانت إنانا أعظم الآلهة وأسماهن منزلة لدى السومريين الكرد. وكان مركز عبادتها الأصلي مدينة أوروك عاصمة بلاد سومر في جنوب كردستان، التي كانت تعد أهم المراكز الدينية والحضارية لعصور طويلة في سومر، وقد لعبت دورآ هامآ في ملحمة گلگامش. ويرومز لها بالنجمة الثمانية أشعة وكوكب الزهرة.

ولهذه النصوص أهمية خاصة كونها تمثل أرشيفآ لكافة التراتيل الدينية، التي كانت تنشد في هذا المعبد اليزداني أثناء تأدية الطقوس والمراسيم الدينية. ولهذا كان هذا المعبد يعتبر مركزآ للنشاط الفكري الديني والإجتماعي، ومن هنا إحتل مكانة خاصة ولعب دورآ أهم من المعابد الأخرى. أما المعبد الرابع فقد عثر عليه العلماء في مكان قريب من المعابد الثلاثة الأخرى. ولكن العلماء لم يعثر على وثائق تمكنهم معرفة الإله أو الإلهة التي كانت تعبد في هذا المعبد والذي يأتي في المرتبة الرابعة، فقط وجدوا في داخله بعض اللقى الأثرية. وهذه المعابد الأربعة معآ شكلوا ما يشبه حي ديني في إطار المدينة. وإلى جانب المعابد كانت المدينة تضم بيوتآ دينية أيضآ كشف عنها عمليات التنقيب اللاحقة.

النصوص المسمارية التي تعود إلى (3000-2000) الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، تلك التي إكتشفت في الجرة المختومة من قبل الباحث الفرنسي “أرنو” في القطاع (أ) من موقع مدينة إيمار، كشفت لنا عن العديد من الوظائف الدينية، وبعضآ من الطقوس التي كانت ترافق تقديم القرابين للألهة. وللعملومات فإن مصطلح (قربان) مصطلح كردي أصيل، أخذه العربان عن اللغة الكردية إسوة بالفرس والتتار ودون ذكر أصل التسمية، ذكرت ذلك لكي تعلموا أن مفهوم تقديم القرابين، طقس ديني كردي قديم جدآ، ويعود أصله للديانة اليزدانية، التي يعود تاريخها إلى أكثر من (8000) ثمانية ألاف عام قبل الميلاد.

وهذا ينطبق أيضآ على مفهوم الصلاة، الصيام، والزكاة. ومصطلح (الزكاة) هو الأخر مصطلح كردي وأصله “زكوت”، عربه العرباب وحولوه إلى زكاة، ليتناسب مع النطق العربي. والمفردة تعود للغة السومرية – الكردية، أي قبل (7000) سبعة ألاف عام قبل الميلاد.

ومن ضمن تلك الطقوس أثناء تقديم القرابين (الحيوانات)، كان يقدم الخبز، الشراب والزيت. والشراب الذي كان يقدم في مثل المراسم هو نبيذ العنب والذي يسمى باللغة الكردية “مي”. وعرفت المدينة عيدين مهمين هما:

1- عيد زكورو: وهو عيد مخصص لذكر الألهة. حيث تم شرحه على رقيم مسماري في (214) مئتين وأربعة عشر سطراً، وكان المهرجان الأكبر في “إيمار”. ويشارك فيه كل أهل المدينة وتتصدره تماثيل “دا-جان” و”نينوريتا” آلهة المدينة. وهو إحتفال سنوي يقام عند إكتمال القمر، حيث كان سكان المدينة الخوريين يخرجون إلى خارج أسوار المدينة ويقدمون الأضاحي والنذور ويتنالون الأكل والشراب. ومن الملاحظ غياب مشاركة الملك والأسرة الحاكمة، في هذا العيد الذي يمثل دورة فصول السنة وتقديم الولاء للآلهة. هذا العيد كانت مراسمه تتم خارج أسوار المدينة كما ذكرنا أنفآ، ويدوم عدة أيام ويتخلله مجالس الطعام والشراب والأحاديث الدينية، وتمجيد الإلهة (دا- جان، نينوريتا) والدعاء لهما والطلب منهما حماية سكان المدينة وأملاكهم ومواشيهم وزراعتهم ومنع الأمراض عنهم. والطعام والشراب الذي كان يقدم من النوع الفاخر لإرضاء الإلهة وكسب رضاهم.

2- عيد كسو: وهو عيد العرش وكان يتم الإحتفال به في معبد الإلهة (دا- جان). والمقصود بعيد العرش عيد الإلهة وليس عرش ملكة المدينة “إستاتا”. بالنسبة لهذا العيد وصفته (7) سبعة نصوص مسماريى من تلك التي وجدت في الجرة. وعيد العرش هذا كان خاص بالألهة (دا- جان، نينوريتا). والإحتفال كان يبدآ بوضع العطر على المنضدات أو الطاولات، ويكرم الآلهة بالخبز والبيرة، وكذلك العراف في اليوم

الأول، وثم يقوم سكان المدينة وعلى رأسهم الكهنة بتقديم بقرة وخاروف إلى الإله “نين كور”. أما في اليوم الثاني كان الأهالي مع الكهنة يقدمون اللحم مع خبز المؤونة قرباناً للألهة، ثم يوزعون خبز النذور في معبد “دا- جان” مرة لكل واحد، وعلى آلهة مدينة “شتبي” يضحون خروفين على مبخرة المعبد ووجههما صوب الآلهة، ويأكل الرجال ومديروا الاحتفال ويشربون ثلاثة أيام في المعبد، وفي اليوم الثالث يقدم الأهالي خروفين قرباناً لمديري المراسم.

والأمر اللافت في هذا الأعياد هو تكرار رقم (7) سبعة مثل: (سبعة أنواع من الطعام، سبعة حلقات، سبعة رجال، سبع جرار، سبعة موائد، … وغيرها ذلك. وهذا ليس غريبآ على المؤرخ الملم بتاريخ الديانة اليزدانية ومضمونها. فالرقم سبعة مهم لدى الخوريين اليزدانيين، لأن في مفهومهم ومعتقداتهم إن اليزدان (الإله) خلق الكون في سبعة أيام، وطبقات السماء سبعة، وأيام الإسبوع سبعة ومائدة الطعام اليزدانية في الأعياد تضم سبعة أنواع من الأطعمة، وجميعها تبدأ بحرف (السين)، ومن هنا تطلق عليها مائدة “سبعة سينات”. وهذا أكبر دليل على خورية وكردية المدينة، بدليل أن الكرد اليزدانيين لهذا اليوم يمارسون نفس الطقوس الدينية.

نهاية الحلقة من هذه الدراسة وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.

ونحن في إنتظار أرائكم وملاحظاتكم ومنكم نستفيد.