هوية وتاريخ مدينة إيمار (مسكنه) – الحلقة الثالثة – دراسة تاريخية – بيار روباري

 

Nasname û dîroka bajarê Îmar (Meskene)

خامسآ- النصوص المسمارية:

عثر على جزء من النصوص المسمارية في قصر الحاكم أو ملك المدينة، والبعض الأخر في المنازل

الخاصة، وجزء منها في المعابد، وبلغ عدد هذه النصوص مجتمعة حوالي (1000) ألف نسخة أو نص. أما فيما يتعلق بمحتوى هذه النصوص، فقد شملت جميع نواحي الحياة في مدينة “إيمار” وجميعها تعود للعصر البرونزي الحديث، وهذه النصوص مكتوبة بثلاثة لغات هي: اللغة الخورية، الهيتية، الأكدية

وجميعها مكتوبة بالأبجدية المسمارية. هذا إضافة أن هذه النصوص، تغطي ثلاثة أجيال بدءاً من إعادة تأسيس المدينة وحتى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، وتحديدآ حوالي العام 1187 قبل الميلاد. هذا فضلاً عن العديد من النصوص الأخرى، التي تشير إلى النواحٍي الجنائزية، الإجتماعية، الإقتصادية، الإدارية، وإضافة إلى ذلك هناك الكثير من المعلومات المتعلقة بالفنون والتأثيرات التي أظهرتها الطبعات فوق الرقم المسمارية.

ومن بين (1000) ألف نص الذين تم إكتشافهم وخاصة في ديوان الكتابة في معبد العراف، هنال حولي (800) ثمانمائة نص منهم، أبرزوا وصف الطقوس والمراسم الدينية، التي كان يمارسها سكان مدينة إيمار وكهنتهم، وكذلك ممارسة العرافة من خلال فحص أحشاء الحيوانات.

أما موقع المدينة المدمر فقد ملأته حفر المقابر العائدة للعصور الرومانية والإسلامية. ومن جهة أخرى، كان البرونز الذي شاع إستعماله حديثاً يضاهي نظرائه في المدن المرموقة على ساحل البحر المتوسط كمدينة كأوگاريت الخورية – الهيتية، ويضم خزائن ومستودعات قسم الآثار الشرقية في متحف “اللوفر” في باريس مجموعة تصل إلى حوالي (900) قطعة أثرية إيمارية.

وبفضل هذه النصوص علمنا أن المدينة بسطت سيطرتها على جبل “بشري” الذي يقع إلى الجنوب من المدينة. وسكان المدينة كانوا مستقرين في منطقة منظمة والعائلة كانت تحتل مكانآ مهمآ في المجتمع.

لقد كانت إيمار مملكة على الضفة اليمنى لنهر الفرات وامتدت سيطرتها حتى جبل بشري في الجنوب.

من ناحية أخرى عثر الباحثين في موقع المدينة على العديد من المنحوتات الفنية التي تمثل طيوراً ونساء وأشكالاً هندسية بينت أهمية التصوير النحتي الخوري- الهيتي، هذا إلى جانب تماثيل برونزية داخل معبد إله العاصفة “تشوب” ودون أذرع، ومنها تماثيل إنسانية ومنها حيوانية مثل: الأسد، الثور، البغل، الغنم، وبعض الأواني بمختلف الأحجام، وكذلك عثر على صناديق من الفخار، وعلى مجموعة من المجسمات المصنوعة من الطين.

وبخصوص موقع مدينة “إيمار” ونوعية تربته وطريقة معالجته ليتمكن بعدها من بناء المدينة التاريخية عليها، في الواقع كان الموقع عبارة عن مدرج صخري على الهضبة أو هضبة مدرجة وتطل على وادي نهر الفرات، فقام سكان المنطقة من الخوريين بهندسة إنتظامه من خلال تخطيط الأرضية الصخرية للموقع، وأتبعوا ذلك بتسوية الأرض من خلال التراب الذي نقل إليه نقلآ من مناطق مجاورة للموقع، وهي مثبتة بواسطة جدران إستنادية قوية. وإضافة إلى ذلك تم حفر وادي في الجهة الغربية للهضبة، بهدف حماية الموقع وتسهيل عملية الدفاع عنه.

وكانت مدينة “إيمار” تعتبر موقعاً متقدماً ضمن حدود الدولة الهيتية – الكردية الشرقية، والدولة الهيتية الكردية حلت محل الدولة الميتانية – الخورية – الكردية دون قتال، في عهد الملك الهيتي “شوبيلوليوما الأول”، وكانت إيمار تتبع إداريآ لمدينة گرگاميش العاصمة الشرقية أو الثانية للدولة الهيتية، عبر نائب الملك الهيتي في المدينة وكان يسمى “إستاتا”. كانت مدينة “إيمار” على إتصال وثيق مع المركز القوي (لتل فاقوس) الذي يبعد عنها بحوالي (10) كيلومترات باتجاه مجرى النهر، كما إتضح ذلك من ختم “الشار الأكبر” القائد العام الهيتي، الذي كان معروفاً في مدينة “إيمار”.

أما السويات العليا للتلة فتعود إلى عصر الإحتلال الروماني والبيزنطي البغيض اللذان غيروا إسم المدينة الخوري إلى “بارباليسوس” بهدف محو هويتها القومية الخورية، وفي العهد الإحتلال العربي الإسلامي البائس تم تغيير إسمها إلى “بالس”، وبقيا منها فقط أجزاء من أسوارها الضخمة، وبعض الأبنية المنسوبة إلى الامبراطور البيزنطي “جوستينيان”.

المحتلين العرب المسلمين الأشرار عندما إحتلوا المدينة بنوا مدينتهم فوق أنقاض مدينة “إيمار” حالهم حال الرومان والبيزنطيين، ودامت مدينتهم نحو (6) ستة قرون. وظلت كمدينة مواجهة كما في السابق ومركز نشاط تجاري مهم، كونها كانت مدينة نهرية وفيها مرفأ كبير، إضافة لكونها ملتقى الطرق بين حلب والموصل عبر نهر الفرات، ومن بقايا هذه الفترة مئذنة يعود تاريخها إلى العهد الأيوبي- الكردي،

وقصر محصن في الجزء الأعلى من الموقع، وتجمعات سكنية كانت تمتد على نحو (15) هكتاراً، وعثر العلماء أيضاً عن بقايا المرفأ الجنوبي، والسوق الصغير وأسوار المدينة، والمحلات التجارية والمنازل التي كانت مزخرفة.

أهم إكتشاف قدمته بالس كان الجامع الكبير الذي إزدانت جدرانه الداخلية بأشرطة وأطر جصية محفورة بزخارف نباتية وهندسية وكتابية غنية، ويتألف الجامع من ثلاثة أروقة متوازية، وتجويف في المنطقة الجنوبية، ولكل رواق محراب محاط بإطار جصي محفور بالزخارف. وزخارف المحراب الأوسط تتألف من تزيينات نباتية وشريطين كتابيين، أما زخارف المحرابين الجانبيين، فالأيمن يحمل تاريخ (1071م) أما المحراب الأيسر فيحمل تاريخ (1076م). وهذا يدل على أن بناء الجامع قد مر بمرحلتين متتاليتين، ففي البدء كان مؤلفاً من الرواق الأوسط، ثم تم إضافة الرواقين الجانبين إليه. هجرت مدينة “بالس” إثر الغزو المغولي للمنطقة وذلك في منتصف (1300) القرن الثالث عشر ميلادي، ولم يبق منها إلا قرية متواضعة هي مسكنة الحالية.

++++++

گرگاميش:

تسمية كردي مركبة من لفظتين: اللفظة الأولى (گر) وتعني تلة، والثانية (گاميش) والتي تعني الجاموس. بهذا الشكل يصبح تسمية  گرگاميش تعني (تل الجواميس) كمعنى حرفي ومباشر، ولكن هنا تعني مدينة

إله الخصوبة. لأن الثور في عقائد أسلاف الكرد وهم: (الهوريين، السومريين، الإيلاميين، الميديين وحتى أيام الميتانيين والحثيين) كان مقدسآ ويرمز لإله الخصوبة. وخاض أسلاف الكرد حروب شرسة وطويلة مع الهنود بسبب تقديس الكرد للثور، وتقديس النهود للبقرة ولا يزالوا يقدسونها للأن. ومن هنا تم تبني وإستخدام تسمية (گاميش) في إسم أشهر ملحمة كردية رفتها البشرية وهي ملحمة “گلگاميش” ولم يحدث ذلك بشكل إعتباطي، وإنما تم إختيا تلك التسمية عن وعي ولأسباب إيمانية دينية، وهذه الملحمة تحولت وإلى جوهر الديانة اليهودية والمقصود بذلك “سفر التكوين” لأنه نسخة شبه حرفية عن الملحمة الكردية السومرية.

 

Wek em dizanin di zimanî kurdî ye peyva (gir) tê wateya (til) bi erebî. Û Gamêş jî tê wateya (camûş) bi erebî. Jiber wê em dibêjin kû navê bajarê “Girgamêş” ji zimanê kurdî hatî. Û jibîrnekin kû gelek bajar û gund li Kurdistanê hene navên wan bi peyva (gir) dest pêdike û herwisa (Gamêş) di destana Kurdî – Somerî ya binavûdeng û yekemîn li cîhanê de hate bikar anîn.

Gir  +  gamêş  —-> Girgamêş: گرگاميش

فن النحت في إيمار:

فن النحت في مدينة “إيمار” إقتصر فقط على تماثيل النساء والطيور والأشكال الهندسية، وعثر الباحثين في موقع المدينة أثناء التنقيبات، على مجموعة من التماثيل البرونزية وأجزاء معدنية كالذهب والفضة داخل معبد إله العاصفة “تشوب”. ولكن الأدوات والتماثيل الطينية المشوية التي كانت سائدة في المدينة، والتي وجدت بكميات كبيرة ومتنوعة ومن خلال دراستها تكون لدينا صورة عن خارطة الفن الإيماري، أي الفن الخوري – الهيتي، والذي تميز بتجسيد الإله بالشكل البشري. وغالباً ما صورت تماثيل النساء عاريات وأذرعهن مطوية للصدر. وإكتشف في الموقع ثلاثة تماثيل، وهي عبارة عن منحوتات معمولة لامرأة نصف عارية، وتتميز هذه التماثيل الثلاثة بأن قوالبها لم تظهر في أي تنقيب أي أن مشاغل الصنع لم يعثر عليها.

كما وعثر الباحثين في موقع المدينة على نماذج من فخار مستورد من قبرص وشمال غرب كردستان (الأناضول)، وهذا يؤكد الصلة الوثيقة بين الهيتيين والخوريين كونهما شعب واحد، وثانيآ يؤكد وجود علاقات حضارية وتجارية بين الخوريين – الهيتتين وجزيرة قبرص واليونان في فترة العصر البرونزي الحديث.

ولعل أهم نماذج العمران التي تم إكتشافها في موقع مدينة “إيمار” هو القصر الملكي المبني على الطريقة الهيلينية، والمطل على الوادي ويعود تاريخه إلى (2000) الألف الثاني قبل الميلاد أي حقبة الهيتيين هذا إضافة للمئذنة المثمنة الآجرية، والتي كانت تعد نموذجاً فريدآ في وقتها، هذا إضافة إلى بعض القبور.

ميناء إيمار وگرگاميش:

Îskeleya Îmar û Girgamêşê

كما ذكرنا سابقآ، إن مدينة “إيمار” كانت موقعاً متقدماً في إطار الدولة الهيتية منذ أن بسط الملك الهيتي “شوبيلوليوما الأول” سيطرته عليها، وضمها إلى دولته وكانت گرگاميش تمثل عاصمتها والتي تقع إلى الشمال منها.

لاشك أن الملك الگرگاميشي الهيتي “إني تيشوب” أدرك أهمية موقع مدينة “إيمار” النهري الإستراتيجي وإدراكه هذا، هو الذي دفعه أن يؤسس مدينة جديدة في هضبة “إيمار” عام 1310 قبل الميلاد. ولكن

الأخطار التي كانت تحدق بإيمار مستمرة وكثيرة، حيث أن الآشوريين والبابليين كانوا يشكلون خطرآ

دائمآ، وبدليل قيام الأشوريين بين الحين والأخر بغزوا المدن الواقعة على ضفاف نهر الفرات، هذا رغم من بسط الدولة الهيتية سيطرتها عليها وعلى گرگاميش وإيمار، وقوتها العسكرية والإقتصادية المتنامية في ذاك الوقت.

وهذا التجرأ كان سببه هو تحالف القوى المناهضة للهيتيين والمتخوفين من قوتهم ورغبتهم في التوسع وبسط سيطرتهم على مناطق جديدة، وأن يأتي الدور عليهم في النهاية. ولتفادي هجمات القوى المعادية لجأت مملكة گرگاميش إلى إقامة تحصينات قوية على طول المنطقة الفراتية الممتدة من گرگاميش حتى جنوب مدينة إيمار، سواءً في (تل القطار) أو في (تل الفقعوس) أو في مدينة إيمار ذاتها، لأن هذا القرن كان قرن الحروب والصراعات بإمتياز، والخطر الأعظم كان يتمثل في القوى الآشورية والبابلية القادمة من الشرق.

لقد شهدت هذه المنطقة حروباً طـاحنة حوالي منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بين جيوش الملك الهيتي (تودخاليا الرابع)، وجيوش قوات الملك الأشوري (شلمنصر الأول)، وبعد أن انتصر الآشوريون وسيطروا على شمال الجزيرة الفراتية خضع لهم الخوريين في هذه المنطقة، لكنهم لم يتمكنوا من بسط سيطرتهم على القبائل الأمورية وذلك بسبب دعم الهيتيين لهم، وبفضل ذلك الدعم تحرروا من سيطرة الأشوريين، وبنوا إمارات خاصة بهم في جنوب نهر الفرات، أي في البادية وحتى في المنطقة بين إيمار وگرگاميش، وهدف الهيتيين من ذلك زرع جدار يصد عنهم الغزوات الأشورية البربرية.

مع ذلك بقيا القرار والسلطة في هذه المنطقة بيد الهيتيين الكرد، وكل الملوك والحكام كانوا منهم ولم يسمح لأي أموري بتولي منصبآ رئيسيآ ولا أن يحظى بلقب ملك. وحتى رجال الدين أي الكهنة جميعهم كانوا من الهيتيين ذوي إصول گرگاميشيو مثل ” كاللوخال، و السانغا”. وهؤلاء كانوا هم الشرفين على أملاك المعابد أي عقارات، التي كانت ملكيتها تعود إلى الإله (نينورتا)، ويتصرفون بها لأنها كانت ملك الأوقاف الدينية، ويوزعون ما شاؤوا منها على أتباعهم.

لم تكن الأخطار الآشورية والبابلية هي الوحيدة التي كانت تحدق بكل من مدينتي “إيمار وگرگاميش”، بل كانت هناك قبائل بدوية تقطن البادية، وتشكل خطراً مستمراً على ميناء إيمار، وهناك ثمة نص من إيمار

نشره “أرنو” ويحمل رقم: (263) يشير فيه كاتبه “شيناصوري” المرسل إلى وكيل مملكة إيمار النهرية (الأوغولاكلاما) الهيتي، قال فيها أن الأوضاع في بلاد شتابي سليمة وهادئة.

إن حكام “إيمار” وغيرها من المدن التابعة لعاصمة الهيتيين گرگاميش أي دور سياسي يذكر، فقط كانت سلطتهم محلية أي بمعنى سلطة محافظ في يومنا هذا، ويتبعون السلطة المركزية، وهذا أمر طبيعي للغاية

في دولة مركزية كبيرة. وكان للملك الهيتي مندوبين أو ممثلين يمثلونه في كل مدينة وهم الذين يشرفون على سير شؤون المدينة. ومن ضمن هؤلاء كانوا أبناء الملك ذاته، الذين عرف منهم (خيشمي تيشوب، ذولانا، ميصيرامو، أبدامو). ولا شك أن هؤلاء الأمراء كانوا يراقبون الحركة الإقتصادية، الإدارية، الإجتماعية، السياسية، الأمنية، التي تجري في المدينة عن كثب ويكتبون للملك الموجود في العاصمة گرگاميش ويطلعونه على كل شيئ.

كما إن لوحات إيمار المكتشفة قدمت صورة واضحة عن گرگاميش، وأعطت هذه النصوص صورة عما كان يجري في العاصمة السياسية للدولة، التي كانت مقرآ للملك الكبير أي (الملك الشمس)، كون الشمس كانت لها مكانة مقدسة في الديانة الكردية اليزدانية وترمز لها بإلهه النور (خور). والملك الشمس كان يحكم تقريبآ كل مساحة غرب كردستان (سوريا الحالية ومعها لبنان) ما عدا البادية ويترك لأتباعه بعض الصلاحيات ماداموا يؤدون واجباتهم بأمانة، وينفذون الأوامر الملكية الصادرة عن الملك، ولا يخالفون التعليمات الملكية.

لم تلقى المدينة الإهتمام الكامل التي تستحقه بسبب التأخر في كشف موقعها، وثانيآ بسبب قلة الوقت كون مياه بحيرة الفرات كانت تداهم موقع المدينة، ولهذا لم تحظى بالبحث والتنقيب المطلوبين، ليشمل كل طبقات المدينة. ومن الناحية الأخرى منعت المشاكل الطبوغرافية لأرضها البعثات من العمل بإستمرار فأصبحت عرضة للحفريات السرية والنهب المباح لتجار الآثار، الذين نهبوا كل ما إستطاعوا نهبه، إذ جرى تهريب العديد من لوحات “إيمار” من قبل المهربين وبتواطئ من مسؤولين أمنيين كبار في دولة البعث الإجرامية، ودولة الأسد الإرهابية، بشكل غير شرعي إلى خارج البلاد.

رابعآ، تاريخ مدينة إيمار:

Dîrok bajarê Îmarê

بداية أختلف مع العديد من الباحثين الغربيين والعربان، الذين كتبوا عن هذه المدينة الخورية – الهيتية – الكردية العريقة، وتحديدآ حول تاريخ نشأتها وهويتها القومية، وهنا الحديث يدور عن المدينة الأولى أو الأقدم التي بناها أسلاف الشعب الكردي من الخوريين. حيث أنشأة هذه المدينة والتي إشتهرت بمينائها

النهري والتي لعبت دورآ حضاريآ وسياسيآ وإقتصاديآ مهمآ وخاصة في عهد الدولة الخورية، ولاحقآ في عهد الدولة الهيتية. وسبب خلافي مع هؤلاء هو عندما أنشئت المدينة لم يكن هناك قوم أخر في المنطقة سوى الشعب الخوري، ثانيآ لم يكن حينها قد ظهرت الدولة الميتانية ولا الدولة الهيتية. حيث كلا الدولتين الميتانية والهيتية ظهرتا في بدايات القرن الثاني للميلاد، ومدينة “إيمار” كما هو معلوم أنشئت قبل ذلك بكثير يفوق الألف عام. وهذا الأمر في غاية الأهمية من الناحية العلمية والتاريخية وتحديد الهوية القومية للمدينة والمنطقة التي تتواجد فيها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال القفز فوق هذه الحقيقة. وبدليل إن جميع هؤلاء الباحثين والكتاب إعترفوا في كتاباتهم ودراستهم بالتأثير الخوري في المدينة. حتى لو أن المدينة تأسست كما قالوا في منتصف القرن الثالث أي حوالي (2400) قبل الميلاد، فيكون الذين بنوا المدينة هم الخوريين، ولكن هذه المدينة هي الثانية ويعود تاريخها إلى العصر البرونزي المتوسط، وهذا ما أكدته الإكتشفات الأثرية في موقع مدينة إيمار الأثرية. وتفاصيل هذا الموضوع ستجدونه في الأسطر القادمة بالتفصيل أي تاريخ بناء كل مدينة منهم وهي ثلاثة مدن في الواقع.

إن تاريخ مدينة “إيمار” القديمة ونعني بذلك المدينة الأولى يعود إلى العصر البرونزي القديم أي حوالي العام (3300) قبل الميلاد وبناها الخوريين أسلاف الشعب الكردي. وكما ذكرنا سابقآ إن موقع المدينة تم تغيره عدة مرات تبعآ لتغير مجرى نهر الفرات فما كان من سكانها الخوريين اللحاق بالنهر، وبناء مدينة جديدة قريبة من ضفة النهر، لتأمين الماء لأنفسهم ولحيواناتهم. ولكي لا يشطح الخيال بالبعض فإن التغير في مجرى النهر لم يتم بشكل فجائي ودراماتيكي وإنما مع الوقت وحسب تغير العوامل الطبيعية والمناخ. والتغير ترواح بين بضعة مئات الأمتار، أو أكثر من ذلك أي مسافة كيلومتر أو كيلومترين. وحسب نتائج التنقيبات في موقع المدينة ويمكن تقسيم المدينة إلى ثلاثة مدن، وكل واحدة لها زمنها، وتعود لفترة زمنية بعينها والمدن هي:

1- المدينة الأولى (القديمة):

يعود تاريخها إلى ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد تقريبآ حوالي العام (3300). وللأسف لم يعثر العلماء على الكثير من أثارها وذلك لسببين: الأول، عمق المدينة. والثاني، قلة الوقت حيث غمرت مياه بحيرة سد الفرات موقع المدينة. وهذه المدينة تعود إلى فترة الدولة الخورية، أي العصر البرونزي القديم والذي يمتد بين الفترة الممتدة من الألف الثالث وحتى نهايته تقريبآ (3100-2100) قبل الميلاد.

2- المدينة الثانية:

يعود تاريخها إلى العصر البرونزي الوسيط (2100-1600) قبل الميلاد. وهذه المدينة تعود إلى فترة الدولة الخورية – الميتانية.

3- المدينة الثالثة:

يعود تاريخها إلى العصر البرونزي الحديث (1600-1200) قبل الميلاد. وهذه المدينة بنيت في مطلع القرن الرابع عشر للميلاد، أي بعهد الدولة الهيتية. وتحديدآ بنيت في عهد الملك الهيتي “تشوبيليوما” (1380-1340) قبل الميلاد، وخليفته الملك “مورشيلس الثاني” (1339-1306) قبل الميلاد، هما الذين بنوا مدينة “إيمار” الثلاثة وقلعة “إشتاتا”.

وعلى أنقاض هذه المدينة أي الثالثة بنى المحتلين الرومان والبيزنطيين مدينتهم والتي أطلقوا عليها تسمية “ﺑﺎﺭﺑﺎﻟﻴﺴﻮﺱ” وﺍﻟﺘﻲ يعود تاريخها ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺮﻥ (6) السادس ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ. والمحتلين العرب المسلمين أيضآ بنوا مدينتهم على أنقاض المدينة الهيتية، ويمتد تاريخها من القرن (8 – 12) الثامن وحتى القرن الثاني عشر ميلادي. أي بدءً بالفترة الأموية وإنتهاءً بالفترة الأيوبية، وغير العرب إسمها من (ﺑﺎﺭﺑﺎﻟﻴﺴﻮﺱ) إلى (بالس).

لقد ورد اسم مدينة “إيمار” الأثرية في العديد من النصوص القديمة التي تعودإلى (3000-2000) للألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، والتي تم إكتشافها في العديد من المدن الأثرية مثل مدينة: “كيش، إيبلا ” هذا إضافة للنصوص المكتوبة على جدران معبد “الكرنك”، التي تعود لعهد الملك أو الفرعون ” تحوتمس الثالث”. وكما ورد إسم مدينة “إيمار” الأثرية في نصوص مدينة “ميرا” التي تقع على نهر الفرات و يعود تاريخ هذه النصوص إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. ونصوص مدينة “أوگاريت” المطلة على ساحل الشرقي للبحر المتوسط عند مدينة اللاذقية، والتي يعود تاريخها إلى منتصف القرن الثامن عشر (1800) قبل الميلا.  حيث ورد فيها خبر عن توسط ملك مملكة “گرگاميش” في نزاع وقع بين رجلين واحد من مدينة “إيمار” وآخر من مدينة “سيانو” الأثرية الواقعة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، واليوم تتبع لمدينة “جبلة” ويبعد عنها حوالي (7) سبعة كيلومتر فقط. وإكتشفت بالصدفة عام 1952، وهي مدينة أثرية قديمة ويعود تاريخها إلى عصر مملكة “أوگاريت” حيث كانت جزءً منها ثم إستقلت عنها في عهد الملك الهيتي “مورشيلي الثاني” الذي حكم بين الأعوام (1295-1321) قبل الميلاد.

وكما ورد إسم المدينة أيضاً في نصوص مدينة “ألالاخ” الخورية – الهيتية في الطبقة السابعة منها والتي تعود إلى الحقبة نفسها، وكذلك في الطبقة الرابعة من مدينة ألالاخ، حيث إكتُشف تمثال لملكها “إدريمي”

منقوش عليه سيرته الذاتية، التي تحوي قصة مغادرته مدينة “إيمار” وعودته إلى عرش آبائه في ألالاخ.

والأهم من كل ذلك هي تلك الوثائق، التي تم إكتشافها في مدينة “إيمار” نفسها، حيث قدمت صورة عن حياة هذه المدينة وتفاصيلها. وقام بترجمتها العالم “دانييل أرنو”، وأكد أن هذه الوثائق ذات طابع حقوقي وإداري، وتتألف من عقود ومراسلات وقوائم أسماء أعلام وجداول، وكتبت بأسلوب خوري – هيتي واضح. هذا وقد عثر العلماء ضمن تلك الوثائق المكتشفة، بمدينة إيمار العديد من طبعات أختام إسطوانية مسطحة مكتوب عليها عبارات مكتوبة بهيروغليفية ميتانية – هيتية.

وكانت مدينة “إيمار” ميناءً تجاريآ مهمآ للغاية، سواء في إطار الدولة الخورية – الميتانية أو عهد الدولة الهيتية الكرديتين، وشكلت عقدة مواصلات تجارية بين المدن النهرية مثل: گرگاميش، مبوگ، شمأل في الشمال. ومدن مثل: هسكه، رقه، درزور، باخاز، أورك في الشرق، وهكذا إمتدادآ حتى مدينة: كيش وخليج إيلام في جنوب كردستان.

 

 

وفي الجانب الأخر شكلت “إيمار” محطة إلتقاء الطرق التجارية بين مدن غرب الفرات مثل مدينة: هلج، دلبين، دو- مشك، رستن، إيبلا، أوگاريت، قطنا أي “المشرفة” حاليآ (مدينة تاريخية ومنطقة أثرية تقع في ناحية عين النسر التابعة لمدينة حمص)، وغيرها من المدن. كانت القوافل القادمة من الشرق تفرغ حمولتها في الميناء ثم تنقل على ظهر الدواب إلى المدن الغربية، والقوافل التي كانت قادمة من المدن الغربية، هي الأخرى كانت تفرغ حمولتها في ميناء المدينة، ومن ثم تنقل عبر النهر إلى المدن الأخرى.

والنقل النهري كان يشمل نهري الفرات والخابور ورافدهما مثل نهر: جقجق، بليخ، الساجور وغير ذلك من الروافد.

وتعاقبت على حكم مدينة “إيمار” عدة حضارات أولها الحضارة الخورية ثم الميتانية وأعقبها الحضارة الهيتية وهذه الحضارات الثلاثة كردية خالصة، ثم تعاقب عليها كل شعوب البحر، ثم حكمها الرومان – البيزنطيين، ومن بعدهم العرب المسلمين، ومن بعدهم حكمها المغول والتتار وخلفهم العثمانيين. بقيت المدينة مرفآ تجاريآ مهمآ ونشطآ، إلى أن داهمها شعوب البحر الهمج الذين دمروا كل شيئ في طريقهم

ومن ضمنها مدينة خاتوشا ومدينة “إيمار” حوالي العام (1187) قبل الميلاد، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك إلا في العصر الروماني ـ البيزنطي حولي (300) القرن الثالث قبل الميلاد، وقاموا بتغير إسمها وأطلقوا عليها تسمية “بارباليسوس”. وعندما إحتلها العرب المسلمين إحتلالآ إستيطانيآ حوالي العام (637) ستمئة وسبعة وثرثين ميلادي، غيروا إسمها إلى “بالس”، وأعقبهم في حكم المدينة الأيوبيين الكرد، وكان ذلك حوالي العام (1160) ميلادية، وسبقهم في حكم المدينة الزنكيين. وبعدها إحتلها المغول والتتار ودمروها عن بكرة أبيها، ثم سيطر عليها أحفادهم العثمانيين حوالي العام (1516) ميلادي، وهم الذين أطلقوا عليها تسمية (مسكنه) نسبة إلى قرية كانت تحمل هذا الإسم وتجاور موقع المدينة وهي مدينة مسكنة الحالية.

وتعرضت مدينة “إيمار” إلى عدة إحتلالات بربرية ووحشية عبر تاريخها الطويل، حالها حال الكثير من المدن الخورية – الميتانية – الهيتية الكردية، والإحتلالات كانت ذو نوعين:

النوع الأول: كان مدمرآ ولم يترك حجرة فوق حجرة، وباطشآ بأهل المدينة دون رحمة بين قتل وتهجيرآ وذبح. وحتى الحيوانات لم تسلم من شرور اولئك المحتلين وإرهابهم الوحشي. ويأتي في مقدمة هؤلاء المحتلين شعوب البحر، المغول والتتار، وفي نهاية العهد الأيوبي دمرها المجرم “هولاكو” بعد احتلاله بغداد عام (1260) ميلادي.

النوع الثاني: كانت أيضآ دمويآ وباطشآ في الأحوال التي أبدى فيها سكان المدن الكردية مقاومة ما وكان إحتلالآ إستيطانيآ – إحلاليآ سراطنيآ كالإحتلال الروماني-البيزنطي، الإحتلال العربي الإسلامي الهمجي، الإحتلال العثماني البربري، وغيرهم من المحتلين.

من الناحية الأخرى، لا يمكن فصل تاريخ مدينة إيمار عن تاريخ المنطقة التي تنتمي إليها، أي بقية المدن والمناطق الخورية في غرب كردستان (سوريا ولبنان كاملآ). فإذا نظرنا في تاريخ هذه المنطقة ومدنها الأقدم مثل مدينة: “گوزانا، أوركيش، هموكاران، واشوكاني، گر- براك، سيكاني، سريه گانية، هسكه، رقه، مبوگ، باب، گرگاميش، وسپيرا، هلچ”، سنكتشف على الفور أنها جزء أصيل من وطن الخوريين (كردستان) وشعبها الكردي.

ومما تقدم، يتضح لنا وبشكل جلي هوية المدينة القومية والمنطقة المحيطة بها وإنتهاء بمدينة أوگاريت وسيانو على البحر المتوسط، وقد كتبنا دراسة خاصة بمملكة أوگاريت وشرحنا معنى تسميتها بالتفصيل وأثبتنا بالدلائل التاريخية واللغوية كرديتها، والتي تقع إلى الشمال من مدينة اللاذقية المطلة على شاطئ البحر مباشرةً.

إن المنطقة بكاملها أي كامل الكيان السوري الحالي ومعه لبنان والعراق ضمنآ وتركيا الحالية وإيران كانت وطن الخوريين أسلاف السومريين، الإيلاميين، السوباريين، الكاشيين، الميتانيين، الهيتيين، والميديين والساسانيين والكرد الحاليين. وبدليل كل هذه المدن التاريخية والأثرية التي تركوها لنا أسلاف الكرد في هذه المنطقة.

والوجود السامي بمختلف مسمياته، حديث العهد مقارنة بالوجود الكردي، ثم أن الكرد وأسلافهم هم من أبناء هذه الأرض، بينما (الأموريين، الأشوريين، البابليين، الكنعانيين والأرمن، والعرب والعثمانيين) وافدين ومحتلين وليسوا من أبناء المنطقة، حالهم حال المحتلين الرومان والبيزنطيين والتتار والمغول والفرس. ولهذا، أي حديث أو إشارة إلى عروبة المدينة أو غيرها من الهويات، محض كذبٍ وتزوير للحقائق التاريخية، وعملية تدليس لا تنطلي على أحد، وخاصة على أبناء الشعب الكردي صاحب هذه الأرض والتاريخ.

ثم إن الغزو العربي الإسلامي البربري لوطن الخوريين معروف تاريخه، وأسماء قادته العسكريين الهمج ولا يزيد وجودهم في بلاد الكرد على (1400) عام، بينما الشعب الكردي يعيش في هذه المنطقة وفق

كافة الدراسات التاريخية منذ أكثر من (10.000) عام على أقل تقدير، وهذا بشهادة الأثار واللقى والرقم والكتابات المختلفة، التي إكتشفت في المدن الأثرية المختلفة، التي جئنا على ذكر أسماء بعضها أنفآ. ومما تقدم ندرك مدى قدم هذه المدينة الخورية، والتي يعود تاريخها إلى (3300) قبل الميلاد، أي قبل بزوغ فجر الدولة الميتانية الكردية بحوالي الف عام وأكثر. وبالطبع العربان المحتلين لأرض كردستان، لم ولن يتحدثوا عن ذاك التاريخ، لأنهم يعلمون حق العلم، أن ذلك ليس في صالحهم بالمطلق، ولهذا وجدناهم يركزون على المرحلة الرومانية والبيزنطية والإسلامية، وتهربوا من كتابة تفاصيل تاريخ مدينة إيمار الأثرية الأولى والثانية.

نهاية الحلقة من هذه الدراسة وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.

ونحن في إنتظار أرائكم وملاحظاتكم ومنكم نستفيد.