مابعد الموت والجان وقزلرباط- نزار جاف

 

في مدينة السعدية”قزلرباط”کما هو اسمها الحقيقي لکن سکانها لاصليين يلفظونها”قزرابات”، وهي ناحية تابعة لمحافظ ديالى وهي مدينة زراعية بإمتياز وتکتض ببساتين النخيل والحمضيات والرمان وغيرها، وفي بداية السبعينيات من الالفية الماضية،  حفزني صديق لاأتذکر اسمه للأسف على الانضمام لحلقة ذکر “دروشة” والتي کان يشرف عليها وقتئذ شاب في مقتبل العمر کان قد أطلق لحيته ويضع غترة بيضاء على رأسه.

في حلقة الدروشة هذه، التي کنا نقوم فيها بحرکات نهز فيها بأجسادنا ورٶوسنا بقوة بإتجاهين حتى کنا نشعر بالدوار ونحن نردد”الله حي، حي الله”، وکما أوحى المشرف على الحلقة فإن ذلك کان سيطهرنا ويجعلنا أقرب الى الله.

وفي أحد الايام وبعد إنتهاء من تلك الحرکات العنيفة، تحدث ذلك الشاب عن الحياة والموت، ووصف الحياة بأنها مجرد خيال ووهم مخادع وإن الحقيقة تبدأ وتتجلى للإنسان عندما يموت. ووجدت مايقوله غريبا وحتى غير مقبول ولذلك بادرته بسٶال مامعنا هل إن ذلك يعني إننا الان في حالة وهم وخداع؟ فنظر لي نظرة غاضبة: فقط إنکم الان خارج الخداع والوهم وماخلاه غير ذلك. لکنني ورغم ماکان يقوم به صديقي من حرکات تحثني على السکوت غير إنني بادرته قائلا: حتى الصلاة والصوم وهم وخداع؟ فإستشاط غضبا ورفع صوته: أنت جاهل وجهلك هو الذي يجعلك تتکلم بهذه الصورة الشيطانية! إجابته هذه کانت بالنسبة لي بمثابة قرار فراق بيني وبين الدروشة والى الابد!

في تلك الفترة، کنا نسکن في بيت في حي الاسکان وهي بيوت بنتها الحکومة بعد فيضان حدث في المدينة في عقد الخمسينيات کما کان يقال، وکان يفصل هذا الحي عن سوق المدينة، مقبرة کبيرة نسبيا، وقررت البلدية إلغاء هذه المقبرة واستخدامها لأغراض أخرى، وطلبت من ‌أهالي الموتى أن يقوموا بنقل رفاة الموتى الى مقابر أخرى. يومها سرت شائعات کثيرة في المدينة عن قبور تم فتحها ووجدوا الموتى وأکفانهم على حالهم من دون أي تغيير على الرغم من أن بعضهم کان قد مر على موته أکثر من 70 عاما أو حتى أکثر.

وکان في هذه المدينة إضافة الى هذه المقبرة مقبرتين أخريين، إحداهما في وسط المدينة ولنا معها حکاية، والاخرى في أطراف المدينة تتجاور مع البساتين وکانوا يسمونها مقبرة اليهود، وهو مايعني إنه کان هناك يهود ساکنين في هذه المدينة العتيقة، وللحق أقول فإن مقبرة اليهود وعلى الرغم من کونها أقدم مقبرة في المدينة لکنها کانت الاجمل وحتى إنها کانت في أيام الربيع مکانا لإستجمام العوائل حيث کانوا يشربون الشاي أو حتى يتناولون وجبات طعام هناك.

وأعود الى مسألة الجثث التي لم تتغير وأکفانها التي بقيت على حالها، إذ أن هذا الامر قد شغل سکان هذه المدينة التي هي في الحقيقة ناحية صغيرة تحيط بها البساتين ويمر بجانبها نهر ديالى(أو سيروان کما يسمونها الکورد)، وصار حديث المدينة عن الموت ومابعد الموت، بحيث إن هذا الحديث نشر حالة من الرعب والهلع ولاسيما عن الجن والارواح والاشباح التي زعم بعضهم أنهم قد رأوها وحتى حددوا أماکنها ومن ضمنها مقبرة في وسط المدينة وبجنب بستان نخيل وبرتقال، ورووا حکايات وحکايات عن الجان والاشباح وأشکالها المرعبة مع ملاحظة إن معظم أحداث تلك الحکايات کانت أثناء الليل، ولأن بيت أختي الکبرى المتزوجة کان في مقابل هذه المقبرة التي فيها طريق ضيق يمر الى الشارع العام وکان بحق يبعث على الرعب في الليل، فقد جعلني الى فترة أمتنع من الذهاب الى بيت أختي بعد الغروب لا بل إنني إمتنعت عن الذهاب ليلا الى دار أحد أقاربنا وهو المرحوم”علي رضا جاف”الذي کان من وجهاء المدينة ومعروف فيها، حيث کان هناك صديقين لي!

في هذه الفترة من حياتي، تملکني خوف رهيب من الموت وصرت أواظب على الصلاة والصوم أيام الاثنين والخميس، وذات يوم وأنا في الصف الاول في ثانوية السعدية، سرح فکري في قضية الموت وکان ذلك في درس قواعد اللغة العربية حيث کان يدرسنا مدرس إسمه عبدالرزاق الذي إنتبه الى سرحاني لکنه إکتفى بأن ربت على کتفي غير إنه وبعد نهاية الدرس سألني: مالذي جعلك تسرح بهذه الصورة؟ فقلت: الموت ومابعد الموت؟ فضحك وقال ولماذا لاتفکر بالحياة وما ينتظرك من مستقبل فيها؟

وعندما حدثته عن ما حدث في تلك المقبرة وعن الجن والاشباح، فقال: هل رأيت ذلك بعينيك؟ فقلت کلا فقال: هل حدث أمر ما لأحدهم بسبب الجن والاشباح؟ فقلت کلا. فقال وبحزم لفت إنتباهي کثيرا: ماتحدثت به کله هراء، وإذا سلمت نفسك لذلك فسوف ينتهي أمرك الى الجنون أو حالة من عدم الاتزان وبدلا من النظر الى المقابر واللهاث وراء الاشباح والجن، تمعن في المناطق الجميلة في مدينتك وأمنح خيالك لما تقرأه من الکتب.

ثم قال لي هذا المدرس؛ بأن ماأتحدث به هي حالة تمر بالکثيرين في هکذا مرحلة من العمر، لکنها مجرد مرحلة سرعان ماتنتهي والذي يخرج منها قويا متماسکا فسيکون کذلك طوال حياته أما الذي يخرج منها مهزوما فسيکون ضعيفا مترددا مهزوزا طوال حياته. وأعترف بأن نصيحة الاستاذ قد أعادتني الى صوابي ووعيي وطويت تلك الصفحة المرعبة من حياتي الى الابد.

من قزرابات لم يبق لي من متاع وذکرى سوى صديق واحد إعتبره صديق طفولة لأنه عندما إنتقل أهلي الى هناك کنت في الصف السادس الابتدائي، هذا الصديق”د.صلاح بيرام”، يرجع إليه الفضل في الاتصال بي والتواصل معي منذ أکثر من عامين وهو من ساعد کثيرا على تنشيط ذاکرتي المتعبة بذکريات حياة لسعتني بسياط قسوتها بشدة الى جانب الحرب وأسر إمتد لقرابة 8 أعوام!