الجغرافيا اللغوية واللهجات –  خديجة مسعود كتاني- الجزء الأول

 

علم اللهجات

يعني توثيق (اللهجات) وفق خطوات علمية، تتضمن العمل الميداني، المسوحات، التسجيلات، تحليل اللغة المكتوبة والمنطوقة٠ لتحديد ووصف السمات اللغوية المميزة للهجة ما، بما فيها المفردات، القواعد، النطق، ويعتبر العمل الميداني خطوة مهمة في هذا المجال، حيث يقوم الباحثون والمختصين بجمع البيانات خلال المقابلات الشخصية، وتسجيل المعلومات والملاحظات التي تخص اللهجة كنمط الكلام في منطقة ومجتمع معينين، وتحليل هذه البيانات لتحديد السمات اللغوية المميزة للهجة معينة، ومقارنة تلك البيانات اللغوية باللهجات الأخرى لتلك اللغة، وإمكانية تحديد أوجه التشابه والاختلاف بشكل عام، أي يعتمد (علم اللهجات) الحديث على الأساليب النوعية والكمية لتوثيق اللهجات وتحليلها٠

وينظر اليه في العصرالحديث كفرع من فروع اللسانيات، يهتم بالدراسة العلمية للهجات في لغة من اللغات ويبحث في الاختلافات اللهجية، وما يرتبط بها من سمات على أساس (التوزيع الجغرافي)، ومن اللسانيين (جورج مونان) وهو من يضع هذا العلم ضمن اللسانيات الجغرافية Geolingestic ويتناول أيضا الظواهر اللغوية الصوتية، الصرفية، التركيبية والدلالية التي تحدث في لغة ما بسبب إختلاف اللهجات٠ كذلك يتناول القضايا المشتركة والمتضادة والمرادفة في اللغة بدراسة التباين الكائن في اللغة الواحدة، ضمن مناطق مختلفة، وفي التجمعات المتباينة٠ والاختلافات التي تحصل بين لهجتين من اللهجات المحلية ذات أصل مشترك٠ والتعامل مع السكان القاطنين في مناطقهم لعدة أجيال، دون أن يرتتحلوا عنها، والمهاجرين حاملين لغاتهم الى مواطن جديدة، ويتناول أيضا جوانب اللسانيات الاجتماعية كأنقسام لغة ما الى عدة لهجات مرتبطة بها والأسباب التي تؤدي الى ذلك، والصلة بين لغة الام واللهجات التي تفرعت منها وما يواجه هذه اللهجات في صراعها وتفاعلها من قوة وضعف إنزواء وإنتشار، موت وحياة وسيادة إحدى اللهجات على سائرها وأسبابها٠ وقد تتحول إحدى اللهجات الى( لغة) تحت عامل الزمن، خلال كل هذه التغيرات يتناول علم اللهجات الأسباب ويستنبط القوانين التي سارت عليها اللغة في كل ذلك ٠

اللهجة

وقد قدم الكثير من الباحثين على تعريف (اللهجة) إصطلاحا خلال علاقتها باللغة٠منهم (منير البعلبكي) في معجم المصطلحات اللغوية فيقول؛ (هو نظام لغوي يمتاز من خلال اللكنة والكلمات والتراكيب الخاصة واللغة التي يتفرع عنها)، ويوصفها ( إبراهيم أنيس) كونها (مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي الى بيئة خاصة ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة)، وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها لكنها تشترك جميعها في مجموعة من الظواهر اللغوية، وتلك البيئة الشاملة مع لهجاتها وهي التي أصطلح على تسميتها (اللغة) ومن خلال هاتين التعريفين يتضح أن علاقة اللهجة باللغة هي (علاقة الجزء بالكل) أو (علاقة الخاص بالعام)

اللسانيات الجغرافية

يعود الفضل الى (مدرسة النحاة الشبان) في السبعينيات من القرن التاسع عشر في المانيا٠ ومن المعلوم أن تلك الفترة من تأريخ الدراسات اللغوية في أوروبا تعرف بعصر (الدراسات التأريخية والمقارنة) ٠ والحقيقة أن دراسة اللهجات حتى تلك الفترة لم تحظى بأي قدر من الأهمية ، لقد كان اللسانيون لايعترفون الا باللسان (الفصيح) ويرون في أي تنوع لهجي إنحرافا عن سواه ينبغي البراءة منه، ثم إقتنع اللسانيون بعد قرنين من الزمان ببطلان هذا المبدأ٠ لكن بعدما جهدوا في الدراسات، تأكدوا ما يعتري اللغات من تغيرعبر الزمن، وأن التغيير في مجال الأصوات تخضع لقوانين صارمة ومطردة، وإعتمادهم على المقارنة بين اللغات الفصيحة دون اللهجات، كان سببا رئيسيا أدى بهم الى التوصل الى نتائج مضطربة لاتخدم فرضيتهم، لان الاعتماد على اللغات الفصيحة عرضة للتأثر بالغزو الخارجي نتيجة التأثير والتأثر، فإتجهوا الى (اللهجات) لاثبات كفاءة القوانين الحديثة وبراءتها من الشذوذ٠ومن هنا إنطلق اللسانيون الى القرى والجهات النائية يجمعون أللهجات لحصر صور (التنوع اللهجي) وتوزيعها على الخرائط الميدانية البحثية حسب انتماءها المناطقي والتي توضح حدود اللهجات المختلفة على الخرائط اللغوية ومعالم كل لهجة ثم جمع الخرائط في (أطلس لغوي)٠ ويشيد ماريو باي بقيمة هذا الإنجاز ودراسات (العلم اللساني) الحديث رغم بدءه على يد اللغويين التأريخيين لأغراض التأريخية، فإنهم وضعوا الأساس لنموذج الدراسات الوصفية في مجال البحث العلمي٠ويعد عام (١٨٧٦م) تأريخًا زاخرا في علم اللهجات أو اللسانيات الجغرافية أذ بدأ فيه اللساني الألماني (جورج فنكر ، G.venker) استقراء صور التنوعات اللهجية في المانيا لينجز أول أطلس لغوي في العالم، ثم ظهر بين عامي ١٩٠٢- ١٩١٤م العالم اللغوي لفرنسا بإشراف اللساني الفرنسي جليرون  Gillieron) )   وأخذت فكرة الاطلس اللغوي تتسع لتظهر بتطورات ملحوظة ونماذج في بلاد كثيرة مثل أمريكا وأوروبا ٠ومن جهة أخرى يؤيد )الدكتورعبد التواب( أن الدراسة الجغرافية للهجات المختلفة ذات فوائد أهمها:

١-دراسة هذه اللهجات لذاتها دراسة علمية عميقة للتعرف على خصائصها مثل الصوت ، البنية الدلالة، التركيب، ولمعرفة التغيرات التي تتطرأ عليها من وقت لآخر٠

٢- دراسة اللهجات في (اللغة الفصيحة) نفسها وإتاحة المجال لذلك والذي يتبعها المسح الجغرافي، وكتابة تأريخ هذه اللغة في عصورها المختلفة مما يمدنا بمعلومات علمية لمعرفة أقرب اللهجات صلة بها وأبعدها عنها ٠

٣- يمدنا هذا المسح الميداني الجغرافي بالمعلومات اللازمة لمعرفة مدى إمتداد اللهجات القديمة في كردستان الكبيرة ، ويفسر لنا النصوص المبتورة عن هذه اللهجات في تراثنا الكردي٠

٤- يتيح لنا هذا العمل المهم فرصة الدراسة المقارنة بين (اللهجات واللغة الفصحى ) ومعرفة الكلمات الأجنبية الدخيلة هنا وهناك٠

عوامل إنقسام اللغة الى لهجات

  • العوامل الجغرافية : وجود حواجز طبيعة بين مجتمعين يستعملان نظاما لغويا واحدا مما يؤدي الى قلة التواصل بينهما ويوسع مسافة الانعزال والذي يقود بمرور الزمن الى إختلافات لغوية بينهما٠
  • العوامل الاجتماعية : تتسبب بعض الحواجز الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد على تقسيم المجتمع الى طبقات حسب المستوى المعيشي، أوالوظائف والحرف والأعمار مما يؤدي تدريجيا الى إنقسام لغة هذا المجتمع الى لهجات تبعا لهذه الفئات ٠
  • إحتكاك اللغات : نتيجة غزو خارجي سياسي ،ديني أو فكري لمجتمعات تتكلم بلغة واحدة، تتأثر لغة تلك المجتمعات بلغة الغزاة حتى يحدث تداخل لغوي بينهما وتصبح اللغة متباينة٠ وخاصة اذا دام الغزو لمدد طويلة٠
  • عامل الزمن : وهو العامل الأساسي والمشترك بين كافة العوامل المذكورة ٠ فلا يمكن لأي عامل من هذه العوامل أن يقسم اللغة الواحدة الى لغات متباينة بين ليلة وضحاها لان عامل الزمن لايبان أثره الا عبر زمن طويل، ليتمكن من تلك اللغة ومن الجوانب المهمة بما في ذلك الجانب (الصوتي، الصرفي، النظمي ، الدلالي) وبنسب مختلفة لتبدو متباينة رغم وجود أو بقاء خصائص مشتركة، لاتجعلها بعيدة كليا عن بعض في حالة إنتماءها لاصل لغوي واحد ٠ منذ زمن واللسانيون يتساءلون عن أسباب الاختلافات التي طالت لغة الام أوالأصل، لو كانت الإجابة هي إختلاف المكان (العامل الجغرافي)  لقد دعا (فرديناند دي سوسير) أن العامل الرئيسي الذي تسبب في ظهور ونشوء اللهجات هو عامل (الزمن) ومن يعتقد أن (المكان) هو الذي تسبب في هذه الفروقات اللغوية يكون واهما ٠ كون الناس يغفلون عن عامل (الزمن ) لان الادراك الحسي للمكان أسهل من تداركه للزمن ، من هنا توصل (فرديناند دي سوسير) الى أن تباعد الأمكنة وحدها لانتشئ الاختلافات اللغوية بل لابد أن يتبعها تعاقب الازمان٠
  • قانون إنتشار الظواهر اللغوية المبتكرة

يخضع إنتشار الظواهر اللغوية الجديدة في المجتمعات الى نفس القوانين التي تخضع لها اية عادة بشرية (كالموضة) مثلا ويوجد في كل مجموعة بشرية قوتان تعملان في آن واحد على الدوام وبإتجاهين مختلفين : هما

١- قوة تتمثل في (نزعة الخصوصية والانغلاق)

٢- قوة تتمثل في (نزعة الانفتاح والتبادل) والتي تدعو الى التواصل بين البشر

الأولى :- هي النزعة التي يتبناها الشخص من العادات والتقاليد التي نشأ عليها منذ

صباه وهذا يفسر قوة ركيزتها في ذات الانسان وديمومتها، ولو كانت هي القوة الوحيدة

التي تؤثر على اللغة لأحتفظت اللغة بخصوصيتها في سياق متين لايمكن للمؤثرات أن

تؤثر فيها، ولكن وجود قوة مضادة لها أثرها على خصوصية اللغة ٠

الثانية – هي النزعة التي وجدت كرد فعل حاجة الانسان الى التواصل فيما بينها

عبر الزمن بطرق وأشكال مختلفة.

فاذا كانت قوة (الخصوصية والانغلاق) إنعزالية بطبيعتها وتحفظ الخصوصية اللغوية فالقوة الثانية (الانفتاح والتواصل أو التبادل)، وهي عكس تيار القوة الأولى وتدعو الى الاختلاط والتداخل الحضاري وتؤثر على الخصوصية اللغوية لقوم ما٠

أهمية دراسة اللهجات

هل اللهجات ثراء أم أداة تفرقة ؟ الجواب : الاثنين وهذا الامر له جذور لان هذا الكلام منبثق عن (اللغة)٠ منذ القدم كانت الشعوب تتعايش، على شكل قبائل ومجموعات أقوام وفئات٠ وهذه الفئات لها مخارج حروف معينة تجعل لهجتها تختلف عن اللغة الاصلية (الرئيسية) حتى تشكلت اللهجات التي تعد نوع من التشعب الذي إمتد منذ القدم الى وقتنا هذا٠ ويمكن القول أن اللغة أو اللهجة هو إكتساب مهارات الكلام في إطار اسري، وطني، واللهجة كعلم منبثقة من اللغة نفسها وجزء منها ونوع من الاختلاف بين المجموعات البشرية على شكل الاسر والعشائر والقبائل أو دول مختلفة كونهم نشأوا وألفوا هذا (اللسان) وهذه (اللهجات) المبنية على تراكيب لغوية تختلف تبعا للاختلاف الصوتي ، الصرفي والدلالي٠ دراسة اللهجات علم واسع يتناول تطور هذا العلم منذ القدم ليومنا هذا من كافة الجوانب، ذات العلاقة وفق ماتم لها في تأريخها من مخارج صوتية ، صرفية، دلالية والمترادفات الخاصة بها٠ هنا لغة (الترادف والتضاد) تشكل تأريخ دراسة اللهجة القائمة على وجود الاختلافات اللغوية في اللهجات مابين دولة، منطقة، قوم … الخ ، التي تعتبر لغة الاقوام ذات البيئات المختلفة٠ ولكن لغة الام هي اللغة المشتركة بين هذه الاقوام ويقال عنها (اللغة العامة) أو (اللغة المثقفة) التي نفهم بعضنا البعض خلالها ٠ الاختلافات من منطقة لاخرى هو لون للمعايشة مع اللغة، لان (اللغة هي الحياة وهي كائن إجتماعي يتطور) فالكثير من المفردات ومخارج الحروف والاصوات تغيرت وتطورت نحو الأفضل، وهذا حفز الانسان على إجراء البحوث في تأريخ اللهجات وتطورها٠ بالرغم من صعوبة الوصول لقاعدة عامة لهذا التأريخ ٠

فكرة التقرب الى لغة فصحى مشتركة

انها مسألة المعاجم اللغوية والمؤسسات العلمية، إن أخذت على عاتقها هذا المهام للوصول الى الكلمات الكردية الصحيحة والمفردات التي تشترك معها اللهجات الكردية، أما ما دخلت اللغة من كلمات غريبة مختلفة عبر التأريخ وألفها سكان الكرد في كافة المناطق فهي مستحدثات لابد أن تدخل حتى لو لم يكن لها قاعدة في المعجم اللغوي، فاللغة الكردية تمتلك قاعدة واسعة واسفنجية عالية تستوعب الكثير مما كان دخيلا عليها من كلمات عبر الزمن ، وإن لم تكن كردية الأصل فلها مكان بين ثنايا اللغة ضمن الحدود العلمية المسموحة٠

استخدام اللغة واللهجة في غير محلهما ثقل لغوي

المشكلة ليست في اللغة بقدر ماهي في وعاء اللغة والإنتاج المعرفي للغة ٠ من المؤسف التخلي عن لغاتنا ودورها المهم في تعزيز هويتنا وكينونتنا وكاننا نلقي سلاحنا، وندع اللغة الأجنبية تقوم بالإنتاج المعرفي وكأننا فقدنا الثقة بلغتنا ونعتقد عدم كفاءتنا في قراءة العلم الحديث بما فيها من دراسات وأبحاث٠ وهذه نظرة انهزامية تراجعية يجب إعادة النظر فيها وخاصة لأصحاب الخبرة والاختصاص٠ سبب قلة معرفتنا باللغة فمثلا إقحام االلغة الفصيحة في غير محلها يعطي للغة ثقل وتفتقد لسلاسة المتكلم ٠ ولكن اللغة الفصحى تعزز دورها في المواضيع العلمية والأدبية واللغة الخطابية والمؤلفات بأنواعها فلها مجالاتها، واستخدام اللهجة (العامية) التي تعد غاية في الأهمية ودورها لايقل أبدًا عن اللغة العامة وهي أكثر استخدامًا، لان الانسان تربى عليها ويمارسها باستمرار وإقتدار وسهولة وهي وسيلة الحديث اليومي في هذه الحياة ومختلف مجالاتها، لكن هذا لايعني استخدامها للتحدث على المنبر، والحديث باللغة جميل في مكانه الصحيح وهذا ينم عن المعرفة والادراك ٠ اللغة تمتزج بالهوية وتعريف الذات ،الجنسية، العلم، الولاء، العرق أو هي خليط من كل هذا، لايتحدث باحث عن الهوية إذا لم يذكر العنصر الأساسي الا وهو اللغة وهي أم الرموز الثقافية والهوية الناطقة والذخيرة اللغوية، لغتنا لغة عريقة تنبض بالحياة، ولكن بحاجة الى تفعيل دائم لذا هو مبحث وأمن لساني مهم٠

** في الجزء الثاني

 اللغويين الكورد والجغرافيا اللسانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *