تعظيم الماضي تدمير للحاضر والمستقبل :- كامل سلمان

في مجتمعاتنا ننظر للماضي بأنه دائماً عظيم ، ماضي أمتنا كان عظيماً ، ماضي الآباء عندما يحدثون أبناءهم كان عظيماً لا يمكن تكراره ، ماضي الإنسان نفسه عندنا كان جميلاً وسعيداً وعظيماً .. والماضي هو مقياسنا الوحيد لكل شيء .
فهو مقياس عظمتنا ومقياس علومنا ومقياس شجاعتنا ومقياس أخلاقنا ، هذا الضعف الذي يعانيه الناس من الحاضر وعدم قدرتهم على مواكبة الحاضر يجعلهم متمسكين بالماضي لعلهم يشعرون بالتعويض .. لعلهم يشعرون بوجودهم حتى ولو كان هذا الوجود وهمي خيالي ، المهم فيه مادة مخدرة .
الحاضر سيء جداً ، واستحضار الماضي في الذاكرة يجعل الحاضر أسوأ ولا يخفف من مرارة الحاضر كما يظنون ، والسبب ان الماضي أصبح ماضي لا وجود له واستذكاره مجرد خيال لا ينفع ولا يسعف الواقع ، عندما يجلس احدنا يتحدث مع احد الاجانب يتحدث عن الماضي العريق لهذه الامة ، ماضي الامة الموجود فقط في مخيلتنا ولم تلمس منه المجتمعات البشرية غير الحروب والقتل والفقر وقطع الرؤوس والمجاعات والامراض والسبي والجواري والغلمان ، فأنه بذلك يهين نفسه ويكشف عورة نفسه ، لأن الماضي العريق يصنع حاضر جميل ومستقبل مشرق ، ، أتذكر أيام الحصار في تسعينيات القرن الماضي ظهرت طبقة من التجار الجدد في اسواق الشورجة وجميلة وشارع النهر في بغداد ، الذين أصبحوا تجاراً بفضل سرقات الكويت وما تبعتها من سرقات ، فكان بعض هؤلاء التجار الجدد يتعرضون لخسائر كبيرة تسقطهم ارضاً وتعلن افلاسهم بسبب قلة تجربتهم ، فقال لي أحد التجار القدامى المعروفين في السوق ، قال لكي تتعرف على التاجر الحقيقي وتميزه عن التاجر المزيف ، فأن التاجر الحقيقي إذا خسر تجارته وأفلس سيستطيع العودة الى مصاف التجار لأنه يعرف طريقه الى السمو والرفعة تجارياً ، بينما التاجر الدخيل عندما يخسر ويفلس فلن يقوم بعدها ابداً ، وهذا هو حال الامم الحية صاحبة التأريخ العريق حتى وأن كان تأريخها سنين معدودة فأن سقطت ستعيد نفسها ، أما أمتنا العظيمة سقطت منذ مئات السنين واستقرت على السقوط راضية مرضية ولم تنهض بعدها ولن تنهض ابداً ، لأن ما نقرأه كله مزيف ، انظروا الى بعض الاباء يحدثون ابناءهم بأنهم كانوا ايام شبابهم كذا وكذا ، وكأن أحدهم كان سوبر مان ثم يعيب أولاده ويعيب هذا الجيل ، ونسي أن أولاده هم نتاج تأريخه هو وتأريخ المجتمع ، لماذا هذه المغالطات ؟ ألم تروا الى العوائل الراقية المحترمة خلفت ابناء راقيين ومحترمين ؟ المعادلة نفسها على مستوى الامة ، ، عندما أقرأ تأريخنا بتمعن لم أجد فيه شيء مميز ، لم أجد حركة اجتماعية واحدة أعطت للمرأة حقها وقيمتها ، لم أجد حركة اجتماعية واحدة تحدثت عن حقوق الطفل ، لم أجد دار رعاية اجتماعية واحدة في التأريخ ، لم أجد قانون واحد قام بتنظيم العلاقات الاجتماعية ، لم أجد ولم أجد ولم أجد ، ولكني وجدت تأريخنا مليء بأسواق النخاسة أي اسواق بيع وشراء النساء ، وجدت تأريخنا مليء بالسلاطين والخلفاء والملوك والامراء الذين يحيون الليالي الحمراء مع نساء الامم المسبية ومن حولهم بطون جائعة ، وجدت القسوة والعنف في التعامل مع الضعيف ومع الاسير و احتقار ذوي الاحتياجات الخاصة والاعمى والاصم . فهل هذا هو التأريخ العظيم الذي كان من المفروض ان يترك لنا الراية لنحملها بشرف ، ، لو كان في جيلنا ذرة طموح نحو المجد لتركنا هذا التأريخ الملوث المخزي ودفناه بالطمر الصحي لأنه مرض معدي ولنظرنا لأنفسنا ماذا سنقدم لغد ؟ ولتركنا خيالات الفانوس السحري وبطولات عنترة ابن شداد وسوالف السعلوة والطنطل ، حضارتنا عمرها اربعة عشر قرناً حتى منتصف القرن الماضي كان غالبية الناس يمشون حفاة لا يعرفون شيء اسمه الحذاء ، وحتى أمراءنا وشيوخنا لم يكونوا يعرفوا صناعة الحذاء بل كانوا يلبسون النعل المصنوع من الخوص ، أية حضارات يبنيها حفاة الاقدام ، لماذا نظل ندور بالماضي ونحن نتذوق مرارة الحاضر ، شيء عجيب أن تجد إنسان يعيش الحاضر بجسده ويعيش الماضي بعقله ، كان المفروض أن يعيش المستقبل بعقله لا الماضي . . أنا أعلم أن الكثير من الناس يمتعضون من هذا الكلام لأن كل ظنهم أن الماضي شمسه لا تغيب ، بريطانيا كانت تحتل العالم وسميت الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، لكن الآن بريطانيا غابت عنها الشمس غصباً عنها وأصبحت ماضي والماضي لا يعود ولكن مازالت لها قدم وتأثير ووجود في الحاضر ومازالت تتسابق نحو المستقبل ولكنها الان ليست هي بريطانيا العظمى كما كانت ، لا ادري فقط نحن بين الامم شمسنا لا تغيب ، وهي اساساً لم تشرق . نتفاخر بأننا اول من أوجد الكتابة والآن نحن بعد الاف السنين غالبيتنا لا يجيدون الكتابة بل والاكثر من ذلك لا يجيدون التفكير .
أن ما يزيدني حيرة هو لماذا أجد بعض الناس رغم علميتهم ورغم ثقافتهم فأن أدمغتهم تقفل بإتجاه واحد ويرفضون غير ما يعتقدون به ، هذا الشيء نجده بوضوح عند اصحاب العقيدة الدينية والمذهبية وفي نمط التفكير اليومي حتى وأن كانت نتائج هذا التفكير سلبية في كل معطياتها لكن العناد يبقى دائماً قائماً بالنسبة لهذا البشر يعني في تفكيرهم هذا هو الثبات على المبادىء وليس العناد . . نريد أن نفرح عندما نقف امام الاخرين بأننا لسنا أقل منهم مكانة ، كل ما نحتاجه فقط تقليل النظر الى الماضي وزيادة النظر نحو المستقبل وقليل من الحرية في العقل وقليل من التحرر في التفكير تكفينا أن نسبق الكثير ممن سبقونا .