نجد اليوم أصواتًا تحاول ادعاء أن جميع السوريين كانوا ضحايا النظام على حد سواء. هذا الادعاء، رغم سطحية ظاهره، ليس سوى محاولة بائسة للتهرب من الحقيقة، إذ يخفي وراءه ممارسات مكشوفة لطمس معاناة الكرد الحقيقية ووضع من كانوا جزءًا من آلة القمع في خانة الضحايا. هؤلاء الذين يدّعون اليوم أنهم تعرضوا للاضطهاد مثل الكرد، هم أنفسهم كانوا، في فترات سابقة، أعمدة للنظام البعثي أو داعمين لسياساته، وشاركوا بشكل مباشر أو غير مباشر في تنفيذ المخططات القمعية التي استهدفت الكرد بشكل خاص. والآن، يحاولون تقديم أنفسهم كشركاء في المظلومية للتغطية على تاريخهم الملوث بالمشاركة في سياسات القمع والاستبداد.
الشعب الكردي في سوريا لم يكن مجرد ضحية للظلم العام الذي عانى منه السوريون، بل كان مستهدفًا بسياسات ممنهجة تهدف إلى القضاء على هويته الثقافية، وطمس لغته، ومحو وجوده القومي من الذاكرة الجغرافية والتاريخية. مشاريع مثل “الحزام العربي”، الذي شكل كارثة ديموغرافية واجتماعية على الكرد، لم تكن مجرد خطوة عشوائية أو قرار عابر، بل خطة محكمة ومخطط لها بعناية. كان الهدف الأساسي منها هو تهجير الكرد من أراضيهم التاريخية في سوريا، واستبدالهم بسكان جُلبوا من مناطق أخرى، لتغيير التوازن السكاني والقومي في المنطقة، وتفريغها من طابعها الكردي الأصيل. هذه الخطة، التي بدأت في ستينيات القرن الماضي واستمرت لسنوات، لم تكن ممكنة التنفيذ دون دعم وتأييد من كثيرين ممن يدّعون اليوم أنهم ضحايا للنظام نفسه.
هذه السياسات لم تكن مجرد استهداف سكاني بسيط، بل مثّلت استهدافًا مباشرًا لجذور الكرد الثقافية والاجتماعية والسياسية. فمنذ تجريد عشرات الآلاف من الكرد من جنسيتهم في إحصاء عام 1962، إلى عمليات تهجيرهم القسري من أراضيهم تحت ذريعة تنفيذ الحزام العربي، كانت هذه الخطوات تهدف إلى طمس الوجود الكردي بكل أبعاده. أضيف إلى ذلك سياسات التعريب التي شملت تغيير أسماء القرى والمدن الكردية، ومنع استخدام اللغة الكردية، وفرض الثقافة العربية بالقوة، مما جعل الكرد يعانون من قمع مضاعف، يستهدف وجودهم القومي وهويتهم في آنٍ معًا.
لكن المفارقة الكبرى تكمن في ازدواجية من يدّعون اليوم المظلومية، ويزعمون أنهم كانوا مستهدفين مثل الكرد. هؤلاء لم يُجردوا من جنسيتهم كما حدث للكرد، ولم يُحرموا من حق التحدث بلغتهم أو ممارسة ثقافتهم، بل على العكس، كانوا في صفوف النظام، يستفيدون من امتيازاته، ويدعمون سياساته العنصرية التي استهدفت الكرد تحديدًا. كانوا يشغلون المناصب، ويشاركون في تنفيذ سياسات التعريب والتهجير، أو على الأقل، كانوا صامتين ومتواطئين مع النظام حينما كان يمارس أبشع أشكال القمع بحق الشعب الكردي. هذه الحقيقة تجعل من الصعب جدًا تصديق ادعاءاتهم بأنهم كانوا ضحايا مثل الكرد.
كيف يمكن لمن دعم سياسات التعريب أو تغاضى عنها أن يدّعي أنه كان مظلومًا؟ كيف يمكن لمن صمت عن إحراق القرى الكردية وتعريب أسمائها أن يقف اليوم ليضع نفسه في مصاف من سُحقت حقوقهم؟ الحقيقة أن هؤلاء لا يدّعون المظلومية إلا لأن النظام، الذي خدموه لسنوات، لفظهم حينما انتهى دورهم، وأصبحوا مجرد أدوات مهملة بعد أن استُنفدت فائدتهم.
هذه الأصوات التي تعلو اليوم ليست سوى أبواق خاوية تحاول تضخيم مظلوميتها المزعومة لتساوي نفسها بشعب عانى لعقود من سياسات الإقصاء والاضطهاد الممنهج. لكنها في الحقيقة لا تملك أي رصيد أخلاقي أو سياسي يجعلها قادرة على الحديث عن المظلومية، لأن أفعالها الماضية، وتواطؤها مع النظام، وحتى صمتها عن حقوق الكرد اليوم، تفضح نواياها الحقيقية. هؤلاء لم يدافعوا يومًا عن حقوق الشعب الكردي، ولم يعترفوا بخصوصية قضيته العادلة، بل حاولوا باستمرار تشويهها، وادعاء أن الكرد كانوا جزءًا من أزمة أوسع، لتبرير صمتهم وتواطئهم.
المظلومية الحقيقية ليست مجرد شعارات تُرفع لتبرير أخطاء الماضي، بل هي معاناة حقيقية تدعمها وقائع تاريخية وشواهد دامغة. والشعب الكردي، الذي عانى من التجريد من الجنسية، ومنع اللغة، وطمس الهوية، والتهجير القسري، والتعريب المنهجي، لا يمكن مقارنته بأولئك الذين كانوا جزءًا من النظام القمعي أو داعمين له. هؤلاء الذين يدّعون اليوم أنهم يسعون للحرية والديمقراطية، لا يختلفون كثيرًا عن ممارسات النظام الذي يتنصلون منه. إن إنكارهم لخصوصية المظلومية الكردية، ومحاولاتهم لمحو معاناة الكرد، ليست سوى استمرار للعقلية البعثية التي لا تزال تعشش في أذهانهم.
في نهاية المطاف، فإن الشعب الكردي يدرك تمامًا أن هذه الأصوات ليست سوى محاولات يائسة لإعادة إنتاج عقلية القمع والإقصاء في ثوب جديد. هؤلاء الذين يدّعون المظلومية لا يمثلون سوى أنفسهم، ومحاولاتهم لتشويه تاريخ الكرد ومعاناتهم لن تغير من حقيقة أن الكرد هم الضحية الحقيقية لسياسات النظام العنصرية، وأن هؤلاء لم يكونوا سوى أدوات تُستخدم حين الحاجة ثم تُلقى جانبًا. الشعب الكردي، الذي صمد في وجه عقود من القمع والإقصاء، لن يتأثر بهذه المحاولات المكشوفة، وسيظل متمسكًا بحقه في الحرية والكرامة والاعتراف بهويته.