الهوية المكانية للأيزيدي – – مراد سليمان علو

 

سنتناول في هذا المقال أسباب تعلق الأيزيدي بمكانه الذي جاء منه، والذي كان يتردد عليه: القرية، المزار، الجبل، المقبرة، الحقل، البيدر… الخ المكان الذي كان يعيش فيه ويحلم فيه. وسنأخذ (الأيزيدي الشنكالي نموذجا).

 

دخول

كمدخل لمعرفة الهوية الأيزيدية للأيزيدي الشنكالي: مقالنا (الهوية الأيزيدية في موقع صوت كوردستان/بحزانى نت:

سأذكر تجربة الفيلسوف الفرنسي (غاستون باشلار) حيث اشتهر في شبابه بدراساته العلمية الجادة وخاصة في مجال الفيزياء. ينشر الكتب ومنها (تجربة المكان في الفيزياء المعاصرة) باختصار كان جهده كله كأستاذ جامعي منصرفا إلى النقد الفلسفي للفكر العلمي ورؤيته كانت بعقلية متحررة وبذلك مان يختلف عن أسلوب التفكير التجريدي السائد في أوربا آنذاك.

ويحول (باشلار) اهتمامه إلى التحليل النفسي فجأة ويصدر كتابه المثير للجدل (التحليل النفسي للنار). خلال السنوات التالية صدرت له كتب لها نفس الطابع: (الماء والأحلام) و (الهواء والاسترخاء) و (الأرض وتهويمات الإرادة) و (الأرض وحلم الراحة) وخلال هذه الرحلة كان الفيلسوف قد تحول من عالم العقل والعلم إلى عالم الخيال والشعر.

هل المكان مرتبط بالخيال والشعر؟

بدون ثيمة المكان، (الخيال المادي) لا يمكن كتابة منجز شعري عن الوطن. يمكن العثور على هذه القوة الخفية والملكة السيكولوجية في أغاني الجبل والمراعي في حوض جبل شنكال: أغنية (لاوكو) الأسطورية وأغاني الحصاد للفلاحين، وأغاني الرعاة المرتبطة بالنار والدفء وشوي الخبز على الجمرات في المراعي.

يتجلى الخيال الشكلي في تلك الأغاني والأشعار أما الخيال المادي فهو خالد في دماغ الفرد يطرح بذوره في الوقت المناسب ويحفز شعور الحنين بالرجوع إلى نفس المكان للاستمتاع بنفس الشعور السابق.

ما أردته من هذا الدخول هو الإشارة إلى الأصالة لرجل انغرست جذوره في تراب الحياة اليومية وكانت النتيجة إخراجه كتب ذات قيمة جمالية وفنية فائقة، نرى في المقابل حين يحدث هذا الأمر للأفراد في الغربة فأنهم يصابون ب (الهومسك) وبأمراض نفسية مختلفة.

أعرف شخص شنكالي كان راعيا وعند فراره من الوطن بسبب عصابات (داعش) أصيب هنا في ألمانيا بأمراض نفسية ولخوفه على نفسه من الجنون قفل عائدا مستفيدا من المنحة المادية التي تمنحها الحكومة الألمانية لمن يودّ الرجوع إلى بلده طوعا. رجع إلى شنكال وأشترى قطيع مناسب من الأغنام. يسرح بها كل يوم من الفجر إلى المغيب، يمر بالأماكن التي يحبها والتي له ذكريات من طفولته معها وهي عنده أجمل من شوارع وساحات هانوفر. وبدلا أن يسمع موال (لاوكو) وهو في الغربة لا شك أنه يغنيه بنفسه وهو يستمتع بمناظر قمم وسفوح جبل شنكال.

كذلك أعرف أشخاص آخرين بل عوائل لم يقدروا على الاستمرار في العيش كغرباء، فرجعوا إلى قراهم وهم الآن أكثر سعادة من أي شخص يعيش في أوربا. فليس كل شخص لديه من الحس المرهف والثقافة العالية كي يكتشفوا إن تلك الأبعاد مكيفة بخيال وأحلام المتلقي.

 

لماذا شنكال؟

أنا شنكالي، وكنت أعيش في قرى شنكال وبلدة شنكال، وكذلك عشت في مدينة الموصل، وبعد هروبي إلى بلاد الغربة كنت أشعر بالعبثية وأنا أتكلم عن الأماكن التي أحبها دون أن أكتب عنها. يقول (غاستون باشلار) في كتابه الرائع (جماليات المكان): “…إن أي كتاب له أي قدر من الأهمية، يستمد أهميته ليس فقط من نصّه، بل وأيضا من وضعه في سياق الموضوع الذي يتناوله..

أقول في جزء من قصيدة نثر طويلة عنوانها (تلك الجهة الجميلة) من كتاب (قرابين القرى) وهو كتاب جاهز للطبع والنشر يتضمن قصائد نثر في الحزن الأيزيدي للسنة الأولى من الفرمان.

 

(1)

مساكن الآلهة تقع في الجهة الجميلة

ذات يوم ستسافر مع الملائكة إلى تلك الجهة

ستزور قبر (الشيخ خدر) آخر رئيس لعشيرة القيران

لا تعدّ جدائل النساء القيرانيات المعلقة على القبر

أشعل فتيلة مغموسة بالدمع وقدّم اللهب قربانا

رافق (العمّ خلف مجّو) في تغريبته لتصافح (شهداء شرقي المحمّرة)

لا تسأل عن عدد شهداء (سيباى)

فأل سيء أن تعدّ الجدائل المقصوصة وتعرف عدد الشهداء

بيوتنا الطينية التي تتوسط المكان

مرسوم على أبوابها أفاع سوداء

لا تخف من الأفاعي الحراس

ابحث معها عن شوق (آل إيكان) للرعي

عندما المعيز الجبلية تتسلل بخفة إلى كهوف الآلهة العشاق.

 

رؤية نفسية

 

لماذا ينشر البعض بأسماء مستعارة؟ أو لا تتضمن صفحات تواصلهم الاجتماعي صور شخصية لهم؟ ولماذا نجد بعض الشلل وخاصة في أوساط المتعلمين والمثقفين. الفرد الأيزيدي متأثر بالتيارات والأحزاب وبالتالي العمل معهم يحتاج إلى حس أمني وإلى مبدأ الشك بالآخرين لذا تراهم يحافظون على بعضهم بمشاركة منشورات بعضهم والتعليق الإيجابي على محتوى بعضم حتى لو كان ذلك على حساب الإبداع والجودة والحقيقة.

عندما خرج بعض هؤلاء من حوض جبل شنكال كنازحين في إقليم كردستان أو مهاجرين إلى أوربا وأمريكا وأستراليا تأثروا بجوهر الليبرالية القائم على تقديس الفردانية الشخصية وبذلك تلاقت وتلاقحت فكرة عزل المثقف الشنكالي مع هذه الحرية المطلقة وامتزجت بالتراث السياسي الذي يحمله فبات يعيش في اغتراب نفسي وفكري عميقين.

ولغرض حل هذا التناقض تراه يبحث عن الشلل أو يريد أن يكون شلة فيكتب في الشأن الأيزيدي ويطلق على نفسه ب (الباحث) في الشأن الأيزيدي أو يقوم بالانتساب إلى إحدى البيوتات الأيزيدية في المدن الأوربية وربما عمل بنفسه على تأسيس بيت أيزيدي جديد في المدينة التي يعيش فيها.

هؤلاء يريدون أن يقنعوا أنفسهم بأنهم أيزيديون أما المجتمع الأيزيدي الأوربي الذي أخذ يكبر، وهم أكراد مع الأكراد. وفي مجتمعاتهم الجديدة يقدمون تبريرات لأطروحاتهم.

 

مسك الختام

الأدب يرتقي للعالمية عندما يستطيع الفرد أن يتبناه ويجد فيه خصوصيته، فتأمل كم من الأماكن تشبه حوض جبل شنكال، وما هو عدد الأفراد الذين يشبهون الأيزيدي الشنكالي في بعده عن وطنه وعن المكان الذي يحبه، الجايخانة التي كان يشاهد من شاشة تلفازها المنتخب الوطني مبارياته، وحين كان يشاهد فلم لفريد شوقي في الساعة الرابعة عصرا من يوم الجمعة. وتلك الأماكن والأوقات الجميلة.. بساتين التين.. سفوح الجبل.. مزارع الحنطة والشعير المليئة بالشقائق في الربيع.. صباحات الأعياد..

أقرأ الفصل الأول من روايتي (سينو) القرية (السكينية) الصادرة من (دار الدراويش)، الفصل الثاني: المجمع (سيباى)، الفصل الثالث: (البلدة) شنكال ـ سنجار، الفصل الرابع: (المدينة الكبيرة) الموصل. وهي رواية مكانية بامتياز.

أذن المكان كما يقول (غاستون باشلار): هو المكان الأليف الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة. إنه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكل فيه خيالنا، فللمكانية في الأدب هي الصورة الفنية التي تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة، ومكانية الأدب العظيم تدو حول هذا المحور حين تكون الصفات الهندسية ملامح ألفة، بالتالي تصبح الصورة الفنية التي أبدعها الكاتب ملكا للقارئ، فحين تقرأ عن قرية (السكينية) في رواية (سينو) فسوف تتذكر قريتك. وطبعا نجد هذا في السينما أيضا وبهذا المسألة الفنية تصبح مسألة اتصال بين المبدع والمتلقي.